تقنية

عن نزوح البيتكوين: مقدّمة إلى بروتوكول آر جي بي RGB

ملحوظة: هذه مقالة رأي تقنية، قد يزعج الرأي فيها بعض الناس، فإذا وجدتَ فيها شيئًا يستحق النقد فلا تبخل على صاحبها.

ملحوظة: هذه المقالة جهد شخصي، إذا أردت دعم الكاتب فانظر العناوين في آخرها.

اتّخذت شبكة البيتكوين منذ نشأتها صيغة سلسلة الكُتَل، وهي صورة من صور أنظمة التخزين الموزَّع، حيث تتولى كل عقدة في الشبكة تخزين جميع المعاملات والتحقق منها. أدّت هذه التقنية دورًا مهمًّا في توفير الشفافية وغيرها من الصفات التي قد تجعل البيتكوين أكثر مقبولية، لا سيما لدى الحكومات. لكن كثيرًا من الناس ظنّوا أن مدار ابتكار البيتكوين إنما هو عليها، وأن «البلوكتشين» هو العُمدة، وليس البيتكوين. ستتبيّن لقارئ هذا المقال سخافة هذه القناعة، ومشكلات سلسلة الكتل، حتى في البيتكوين. هذه المشكلات أدّت إلى تجنّب بعض الناس للبيتكوين، لكنها أدّت كذلك إلى تطوير حلول مبتكرة، منها شبكة البرق وبروتوكول RGB، وكلاهما يعتمد على تقنيات التعمية والبرهنة (وربما على البرهنة بلا معرفة Zero Knowledge Proofs)، دون كبير اعتماد على سلسلة الكتل، إلا من حيث هي وسيلة للختم الزمني. فما هي مشكلات البلوكتشين، وهل يمكن نظريًّا أو عمليًّا أن يُستعمَل البيتكوين خارج سلسلة الزمن؟

أظنّ أن كثيرًا منّا –نحن معاشر البيتكوين– قد أدرك بعد نشأة تقنيات نقوش الأوردينال والعملات البديلة على سلسلة الزمن (من قبيل BRC-20 وغيرها الآن)، أن في تصميم البيتكوين شيئًا غير مثالي. تأثّرت معاملات الشبكة الأم تأثرًا كبيرًا بارتفاع الرسوم، لكن شبكة البرق أيضًا لم تكن في معزلٍ تامّ عن آثار هذه التقنيات الجديدة، ذلك أن ارتفاع الرسوم يزيد من ضرورة الثقة في شبكة البرق. ظلّت السلاسل الفرعية مثل شبكة ليكويد في معزل عن المشكلة نوعًا ما، لكن هذه الشبكات لا تقدّم حلًّا مستدامًا أو خاليًا من الثقة. المشكلة متأصّلة في البيتكوين ومؤثّرة على الطبقات المبنية عليه، لكن ما هي المشكلة أصلًا؟

وصف المشكلة

انظر إلى هذه العناصر في الطبقة الأولى من البيتكوين، وحاول قبل أن تكمل القراءة أن ترتّبها من الأفضل إلى الأسوأ (سأكتبها أنا لا على الترتيب): سقف المعروض، سلسلة الكتل، برهان العمل، الخلو من الثقة، مقاومة الرقابة، مجهولية المرسلين والمستقبلين، إتاحيّة بيانات المعاملات. (ملحوظة: ليس المقصود ذكر جميع العناصر، ولا أن هذه العناصر مستقلة بعضها عن بعض). في رأيي، مهما كان ترتيبك المفضَّل لهذه العناصر، فلعلّك توافقني أن مفهوم سلسلة الكتل من أسوأ ما تقيّد به البيتكوين. فإذا كنت ترى غير ذلك، فلا بأس، تحمّلني وأكمل معي.

تعاني سلسلة الكتل (وتجعلنا نعاني معها) مشكلاتٍ كثيرة:

  1. نقص الخصوصية الداعي إلى تقنيات الخلط المسمّاة Coinjoin وأشباهها مثل PayJoin وغيرها.
  2. حاجة كل أصحاب العقد إلى تخزين كل البيانات المرفوعة إلى السلسلة، وهو ما استغلّه أصحاب النقوش ففرضوا على الناس تخزين أشياء لا يريدون تخزينها. هذه المشكلة دعت كثيرًا من الناس (ومنهم أنا) إلى وصف سلسلة الزمن بأنها بنية تعاني تراجيديا المشاع. نعم، رفع البيانات إلى السلسلة مكلف وليس مجانيًّا، لكن وجود التكلفة يعني أن من حق الغني دون غيره أن يرفع بياناته على حواسيب كل مشغّلي العقد. المثالي في الحقيقة، هو ألا يكون من حق أحد أن يضع في حاسوبي أي بيانات لا أريد أنا احتواءها، سواء أكان غنيًّا أم فقيرًا.
  3. الحجم الكبير (نحو نصف تيرابايت إبّان هذه الكتابة) الذي يمنع كثيرًا من الناس من تشغيل عُقَدهم الخاصة.
  4. المحدودية الكبيرة، فسلسلة الزمن في البيتكوين لا تستطيع في الكتلة الواحدة أن تنفّذ أكثر من 5 آلاف معاملة. معظم الكتل تحتوي على رقم أقل من هذا.
  5. البطء النسبي.
  6. النزاعات على السياسات المعتمدة فيها.
  7. وغير ذلك؟

شبكة البرق

لستُ أنا الذي اكتشف هذه العيوب، بل هي معروفة في مجتمع البيتكوين. وقد كانت هي السبب الذي دفع إلى ابتكار شبكة البرق، التي استطاعت بجدارة التخلص من مشكلة البطء وبعض مشكلات الخصوصية، كما أعفت أصحاب العقد من تخزين المعاملات المجراة عليها، وأطلقت البيتكوين من محدوديته، إذ تستطيع هذه الشبكة إجراء عدد ضخم من المعاملات في ثوانٍ معدودة. كانت شبكة البرق ثورة في عالم البيتكوين، حرّرت البيتكوين (من حيث هو أصل) من سلسلة الكتل نسبيًّا، وقامت عليها كثير من الابتكارات التي تستعمل اليوم (من الأسواق والتطبيقات وتقنيات النقد الرقمي والأصول المختلفة وغيرها). لكن هذا «التحرير» لم يكن كاملًا، لأن شبكة البرق مقيّدة بقيود تفرضها عليها سلسلة الكتل، منها:

  1. مسألة السيولة الواردة.
  2. مسألة إدارة السيولة.
  3. مسألة مشكلات التوجيه.
  4. الحاجة إلى الثقة في المقادير الضئيلة.
  5. مشكلات الإغلاق القسري غير المُراد.
  6. دفعها المستخدمين إلى استعمال الحلول الائتمانية (أو الوصائية).
  7. وغير ذلك؟

هذه المشكلات أيضًا معلومة في المجتمع، ونرى اليوم مساعي إلى حلّها بطرق أخرى، منها شبكة الفُلك Ark التي أُعلن عنها قبل أسابيع قليلة من كتابتي هذه. لعلّي أستطلع شبكة الفلك في مقالة خاصة في المستقبل. لكن الظاهر من المناقشات الجارية اليوم بشأنها، أنها مقيّدة كذلك بقيود تفرضها سلسلة الكتل، كما أنها مقيدة بالحاجة إلى تنفيذ تحديث لشبكة البيتكوين، وهو في حد ذاته من عيوب سلسلة الكتل، لأنها بنية عامّة، لذلك فكل تغيير فيها هو محل للنزاع. فلنعُد الآن خطوة إلى الوراء. ولنتجه إلى الفقرة التالية.

لماذا الحلول؟

للمرء أن يسأل نفسه بعد كل هذا، ما الدافع وراء كل هذه الحلول؟ ما الغاية المُرادة من ورائها؟ لماذا نبحث عن شبكات إضافية سوى الطبقة الأولى؟ لقد ذكرت فيما سبق، أن الغاية من كل هذا هي في رأيي «تحرير» البيتكوين العملة من البيتكوين الشبكة. تتيح شبكة البرق للمتعاملين فيها أن يتعاملوا في معزل عن سلسلة الكتل off-chain، أما شبكة الفُلْك فتسعى إلى حل مشكلات شبكة البرق. تتيح شبكة البرق أيضًا التعامل بأصول مختلفة سوى البيتكوين (انظر ابتكار Taproot Assets الذي ابتكرته مختبرات البرق Lightning Labs). شبكة البرق وشبكة الفلك إذن، يحرّران من محدودية البيتكوين من حيث عدد المعاملات. وشبكة البرق وشبكة ليكويد تحرران من محدوديتها من حيث تنوّع الأصول.

الظاهر من كل هذا أن السوق متجه إلى التخلّي (النسبي أو المطلق) عن سلسلة الكتل، وأن الناس يريدون شبكة تستطيع تنفيذ عدد كبير (الأفضل ألا يكون محدودًا) من المعاملات، وتستطيع التعامل بأصول متنوعة (من منّا لا يتعامل بدولار تثر؟)، لكنها في الوقت نفسه لا تجبر جميع مشغّلي العقد على تخزين كل معاملة رائحة أو جائية. تهتمّين لأمور كثيرة، والمطلوب واحد: فصل البيتكوين عن سلسلة الكتل. لكن لحظة: هل الأمر ممكن أصلًا؟ كيف يمكن أن نحافظ على برهان العمل ومحدودية المعروض وغير ذلك من خصائص البيتكوين المهمة دون سلسلة الكتل الشفافة الرائعة؟

هذه الظاهرة التي أسمّيها «نزوح البيتكوين» من سلسلته إلى وسائط نقل أخرى، اتخذت أشكالًا كثيرة وستتخذ أشكالًا أخرى في المستقبل. ولعلّ أن مستقبل البيتكوين أن يكون مُعتَقًا من سلسلته حُرًّا من إصرها وأثقالها. ظهرت في الآونة الأخيرة –بعد طول خمولٍ وتخفٍّ– تقنية جديدة يصفها أصحابها بأنها تقنية «ما بعد البلوكتشين». لا تعتمد هذه التقنية على أي سلسلة كتل، وهي في الوقت نفسه تتيح التعامل بالبيتكوين وغيره من الأصول. وتتيح الأصول الثمنية (Fungible) والعرضية (Non-fungible)، وهي منصة حوسبة يمكن فيها تنفيذ العقود الذكية. ستتخذ هذه التقنية أحد شكلين: إما أن تعتمد على شبكة البرق، وإما أن تكوّن شبكة جديدة يتحرر فيها البيتكوين من سلسلته. فلنلق نظرة على بروتوكول آر جي بي RGB.

قاتل البلوكتشين: آر جي بي RGB

بدأ الأمر قبل أكثر من نصف عقد من الزمان، بتقنية سُمّيت العملات الملوّنة. تتيح هذه التقنية وضع علامة على بعض العملات في شبكة البيتكوين لتجعلها متميزة عن غيرها. تشبه هذه التقنية من حيث غايتها فكرة الأوردينال، لكنها كانت أقرب إلى البدائية. مع الوقت، نشأت فكرة توسيع هذا المفهوم ليغطّي العملات في شبكة البرق أيضًا. وهُنا نشأ اسم RGB (وهي حروف الألوان الأساسية الثلاثة بالإنكليزية: أحمر، أخضر، أزرق، في إشارة إلى العملات الملونة). ولم تلبث أن نشأت جمعية LNP/BP للمعايير. تتخذ هذه الجمعية اسمها من بروتوكول شبكة البرق (Lightning Network Protocol)، القائم على بروتوكول البيتكوين (Bitcoin Protocol). تقوم الجمعية على عدة مشاريع، كلها متعلّق بطبقات البيتكوين.

تتصف تقنية آر جي بي RGB بالقدرة على التوسع، لأنها لا تضع أي بيانات على أي سلسلة كتل، وبالخصوصية، إذ تمنع تحليل السلسلة وتستعمل براهين عدم المعرفة، وتضيف إلى بيئة البيتكوين والبرق القدرة على سكّ الأصول وعَقد العقود الذكية. لا تعتمد تقنية آر جي بي على أي عملة بديلة في عملها، رغم إمكانية سك العملات فيها. تتميز التقنية بعدم حاجة أحدٍ سوى أطراف العقود إلى التحقق من صلاحية العقود، خلافًا للعقود الذكية القائمة على سلاسل الكتل (مثل إثيريوم وغيرها)، والأمر نفسه يشمل معاملات الإرسال البسيطة. البيانات تبقى مع أصحابها وحدهم. (هذه الخصوصية أقوى حتى من الخصوصية في شبكة مونيرو Monero التي تبقي بيانات المعاملات المشفرة على سلسلة الكتل).

طبقات آر جي بي RGB

تصميم نظام آر جي بي RGB مدروس ومتقَن ومعقَّد، وفيه عدة طبقات. يعتمد النظام على طبقة خاصة للبيانات (لتناقل البيانات بين المرسل والمستقبل)، يمكن لهذه الطبقة أن تكون شبكة نوستر أو غيرها، كما يعتمد على شبكة البرق وعلى سلسلة الكتل بوصفها طبقة لنشر الالتزامات commitments. سأشرح شيئًا من هذا النظام بمثال استعمله رئيس الجمعية الدكتور مكسيم أورلوفسكي. عندما تعطي البائع ورقة نقدية ويتحقق من صحتها باستعمال آلة أو النظر فيها، فهذا تحقّق من طرف العميل، ليس على البائع أن ينشر الورقة في مكان عام ليتأكد من صحتها. يستعمل نظام RGB الطريقة نفسها: أولًا، لا بد من استعمال وسيلة نقل للبيانات لإرسال «الورقة النقدية» إلى البائع، قد تكون هذه الوسيلة نوستر أو كيت أو تلغرام أو وتساب أو أي وسيلة لنقل البيانات. ثانيًا، يستعمل البائع وسيلة للتحقق من صحة الورقة النقدية، دون الحاجة إلى استعمال أي طبقة نشر عامة.

قد يكون النظام صعب الفهم على غير التقنيين. بل لعلّه صعب حتى على التقنيين. لكن الوعود التي يقدّمها ضخمة وعظيمة في نظري، لا سيما مع اقتراب طرحه للاستعمال العام، إذ يرجَّح أن يُطلَق هذه السنة، وهو متاح على شبكة testnet من الآن. أرى في القائمين على هذا المشروع شجاعةً كبيرة، إذ يتحدّون كثيرًا من المسلّمات في مجتمع البيتكوين، ويدمّرون كل ما يدّعيه أصحاب البلوكتشين والعملات البديلة من تفوّق تقنية البلوكتشين وغيره. تجلّت هذه الشجاعة مؤخرًا في اقتراح جديد نشرته الجمعية. فيما يحاول الجميع البحث عن الطبقة الثانية المثالية، يحاول مكسيم أورلوفسكي البحث عن الطبقة الأولى المثالية.

برايم: طبقة أولى جديدة للبيتكوين

نشرت جمعية معايير LNP/BP ورقة تبيّن إمكانية نقل البيتكوين، بعد تعزيزه بتقنية آر جي بي RGB، إلى طبقة أولى جديدة ليست سلسلة كتل، ومن ثم خالية من كل قيود سلسلة الكتل. تستطيع هذه الطبقة إجراء عدد غير محدود من المعاملات (على الأقل مليارات المعاملات في الدقيقة!)، لأن تخزين البيانات والحوسبة فيها سيجريان في الطبقة التي تعتمد على التحقق من طرف العميل (آر جي بي RGB). لا تتطلب هذه الطبقة أي شبكة برق، لأن المشكلات التي تريد شبكة البرق حلها غير موجودة فيها أصلًا. يمكن تطبيق هذه الطبقة دون أي تغيير في كود البيتكوين.

من ميزات طبقة برايم:

  1. القدرة على التوسع، دون الحاجة إلى البرق وغيره.
  2. خصوصية أفضل بكثير، بفضل عدم نشر أي سجل معاملات أو مفتاح عام أو عنوان في أي مكان عام.
  3. قابلية البرمجة.
  4. تحسين عملية التحديثات.

من عيوب طبقة برايم:

  1. بدلًا من تحميل سلسلة الكتل، سيحتاج المشاركون في الشبكة إلى الاستعداد دائمًا لاستقبال المعلومات من المعدنين، لأن بعض المعلومات اللازمة للتحقق من صحة المعاملة تُحذَف ولا تبقى في الشبكة. يمكن حل هذه المشكلة بإطلاق خدمات خالية من الحاجة إلى الثقة، تحفظ المعلومات وتقدمها لطالبيها لقاء تكلفة معينة. هذا العنصر يحل أحد عيوب سلسلة الكتل، وهو حاجة الجميع إلى تخزين بيانات الجميع مقابل رسوم تُدفَع للمعدنين.
  2. بعد نقل البيتكوين إلى هذه الطبقة، لا يمكن استعادته إلى الشبكة القديمة بطريقة خالية من الثقة، إلا إذا جرى تحديث للشبكة الأصلية يتيح الخروج على نحو خالٍ من الثقة (مثل BIP-300/301). إذا لم يجر هذا التحديث، سيضطر القائمون على الشبكة إلى تأسيس فدرالية شبيهة بالقائمة على شبكة ليكويد.

هل تكون هذه الطبقة هي الكأس المقدسة التي ينتظرها أهل البيتكوين؟ سيتبيّن الأمر في الشهور والأعوام القادمة. لكنّ الأكيد في نظري أن مستقبل البيتكوين لن يكون في سلسلة الكتل. لقد بيّنت الشهور الماضية خصوصًا كيف يمكن استغلال سلسلة الكتل لأهداف غير عملية، تضر جميع المشاركين فيها، لا سيما مع ظهور تقنيات فرضت بالقوة على جميع عُقَد البيتكوين استعمال مزيد من الموارد التخزينية والحوسبية لأهداف غير اقتصادية. لا بد من الهجرة. لا بد من النزوح.

خاتمة

قد تزعج هذه المقالة أصحابنا من «المتعصبين» للبيتكوين، لكنها وإن كانت نقدًا، فهي نقد بنّاء، ليس وراءه إلا إقرار بأهمية الندرة الرقمية، وطموح إلى التخلص من القيود غير الضرورية التي تقيّد هذه الندرة.

المصادر:

  1. موقع RGB FAQ

أعجبك المقال؟

تحويلك يذهب منك مباشرة إلى الكاتب
أحصل على محفظة برق من هنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى