المقالة الأصلية | المؤلف: Nic Carter | ترجمة: The BTC Translator | تاريخ الكتابة: سبتمبر 2017
ليس على الشعوب أن تخاف من حكوماتها. إنما على الحكومات أن تخاف من شعوبها.
– ڤي، من فِلم V for Vendetta
تمتم ريديغر: «إنه الخضوع…» «الفكرة الصادمة البسيطة، التي لم يُعبَّر عنها بهذه القوة من قبل، هي أنّ قمّة السعادة الإنسانية موجودة في الخضوع المطلق».
― ميكل ويلبك
لا تخطئ، أهل البيتكوين ثوّار
أخطأ المدافعون عن الحريات في كل شيء. إذ سعوا إلى تقليص قوة الدولة من خلال المشاركة في العملية الديمقراطية. كانت هذه المهمة ولم تزل مهمة عبثية لا أمل منها. الدولة مثل الغول في أسطورة تولكن، وحشٌ لا حدّ لجشعه، يكافئها أنشَط ناخبيها بأصواتهم فتنمو أكثر، وبالمقابل تكافئهم الدولة بمزايا واستحقاقات تزيد بإستمرار. باختصار، إن المدافعون عن الحريات: عالقون. تنمو الدولة مهما رميت عليها، مثل الكائن المخيف الهلامي في فلم The Blob. إن المشاركة في العمليات الديمقراطية يقوّي الدولة ويرسّخ الطقس المدني المنظم بوصفه الطريقة الشرعية الوحيدة للمشاركة السياسية.
يرفض البيتكوينيون هذا: ويفهمون أن الحركة الرابحة الوحيدة في السياسة هي عدم اللعب.
ركل البيتكوينيون رقعة الشطرنج واختالوا حولها اختيال المنتصرين. اختار البيتكوينيون رفض قوانين المشاركة السياسية، فبدؤوا يعملون على نظام مالي خارج إشراف الدولة واختصاصها، نظامٍ مالي لا قيدَ فيه. في النهاية، يتطلع البيتكوينيون إلى نظام يتيح التجارة الحرة والمصرفية الحرة بأساس سليم (خلافًا للفوضى الحاليّة التي توزّع خسائرها علينا)، ويجعل قيود رأس المال شيئًا من الماضي، ويحرر المدّخرين من السرقة التي تفرضها الدولة عليهم بالتضخم، ثمّ يسلب الدولة من قواها تمامًا، بتقليص عدّتها الماليّة.
كما هو متوقع، أغضب هذا الاقتراح النخبة المثقفة المعتمدة على الدولة، وطبقة الخبراء والصحفيين الذين انبطحوا عن مكانة السلطة الرابعة الناقدة الجريئة، وأصبحوا طبولًا هزيلة للمنظومة القائمة. فليست مفاجئة أبدًا أن الغالبية العظمى من أشد النقاد عداوة للبيتكوين هم أكثر المستفيدين من قربهم أو عضويتهم في الدوائر البيروقراطية في واشنطن أو نظائرها في الدول الأخرى. من الأكاديميين المستفيدين من فقاعة القروض الطلابية المنفوخة، والسياسيين الحاليّين والسابقين، الذين يحولون نفوذهم السياسي مراراً وتكراراً إلى ثروةً شخصية (وعجبي!)، والصحفيين، الذين لم يبق من مهنتهم إلا تمرير رسائل الحكومة في محاولة عقيمة لبناء خندق ضد وسائل الاعلام الناشئة ومشاهير YouTube الذين لهم مئة ضعف قوة الإعلام التقليدي، وعلماء الاقتصاد الذين اضطرّهم طلبُ المنح والمناصب إلى ترويج الروايات الكينزية.
هكذا، ومنذ مهد الحركة، وجد البيتكوينيون أنفسهم أمام الصراخ الكريه لهذه الطبقات الثرثارة، فما لبثوا أن تحولوا من مبتكرين في عالم مثالي إلى معارضين. ابحث في الصفحات الأخبار المالية في صحيفتك، لن تجد إلا الاستهزاء والمسخرة (وقد تجد إيماءةً نادرة بقبول على مضض). كل هذا لأصلٍ نما من 0 إلى 200 مليار دولار في عقد من الزمن، من دون دعم صناديق استثمار، ولا طرحٍ أسهم عامٍّ أولي، ولا شركة مسجلة، ومع مؤسس غائب، والقائمون على المشروع جميعاً يعملون على البروتوكول المفتوح المصدر. في الولايات المتحدة حكمت الحكومة على روس أولبريخت حُكْمَين بالسجن المؤبد دون إمكانية العفو المشروط، بالإضافة إلى 40 عامًا، بجريمة إنشائه سوقًا حرّة مسعّرة بالبيتكوين. حظرت الصين التقايض الرسمي بالبيتكوين، وتحاول الهند أن تمنع مجرّد امتلاك البيتكوين.
نحن لسنا مقبلين على الحرب، نحن في الحرب. نعم، ليست الحرب مثل وحشية الأيّام الخوالي، فقد تغير هذا الوضع منذ زمن طويل. فقد ولت أيام الرجال الذين يتواجهون بنبالة ويتقاتلون حتى يهلك طرف من الأطراف. ولم نعد نخرج من الخنادق إذا سمعنا صوت صفرة لنطلق رصاصنا. الحرب المفتوحة فكرة بائدة. حلّ محلّ الحرب المفتوحة في النزاعات المعاصرة مزيجٌ من الانتفاضات والعبوات الناسفة والعقوبات وضربات الطائرات المسيّرة واستهداف البنى التحتية الاستراتيجية بالعمليات مثل فيروس Stuxnet. فإذا انتقلت الحرب التقليدية إلى العالم الافتراضي، فلم لا تنتقل الثورة أيضًا؟
وهي ثورة، لا تخطئ في هذا. فالعملات الرقمية، ولا عليك من أقوال بعض مستخدميها الجبناء، تبقى مستقلّة استقلالًا واضحاً عن الدولة، ومعاديةً لها معاداةً تامّة. إذ لا يمكن تقنينها ولا حجرها ولا اخضاعها لقوانين الدول. لم يكن موقع silkroad طفرة أو خبرًا من التاريخ نقرؤه بشكل عابر. بل كان برهانًا عميقًا على غاية البيتكوين العليا وعدم اكتراثه بالأعباء التي تُثقل النظام المالي. إن الدولة الحالية في شكلها المنفوخ الجشع، لا تكتفي بخضوعك المادي، بل تريد أيضًا سيلًا غير منقطع من بياناتك والإحصائيات. فأموالك ليست أموالك، بل في كل خطوة هم يدققونها ويعطوك الإذن استخدامها. فإذا خرجت عن السائد ولو خروجًا بسيطًا، فإنك تخاطر بمدخراتك التي قد تُصادَر من غير حق بالطعن. ناقلات الجند المدرعة هذه لن تدفع تكاليف نفسها، أنت من سيدفع تكاليفها.
العملات الرقمية تنقضّ على الدولة
كما بدأ البروتستانتيون في القرن السادس عشر بالتساؤل حول عقيدة الغفران ومجال سلطة البابا، كذلك تساءَلت حفنة شعثاء من المهووسين ومحبي التشفير: هل التضخم ضروري فعلًا؟ وهل، في اقتصادٍ قائمٍ على السوق الحرّة، يكون للمصارف المركزية الحق في تسعير المال كيف شاءت؟ هل ينبغي أن يكون للدولة سلطة كاملة على مدخرات الإنسان ومصاريفه؟ هل يجب إجبار المودعين على الثقة بالمصارف لتعيد لهم ودائعهم؟ ما الذي يعنيه سطرٌ في قاعدة بيانات المصرف؟
إن العملات الرقمية الحقيقية — وهي أنظمة مالية بديلة، حقًّا — تهدد الدولة والعالة المتعايشة منها. البيتكوين فكرة تحمل إهانة بذيئة للغاية، إلى درجة أنه لا مجال فيها للتأمل. يهدد البيتكوين أهم امتياز للدولة، وهو قدرتها على تمويل نفسها بالتضخم و صكّ العملة.
لقد بدأت العملات الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين، تؤثر في سياسات المصارف المركزية. ليس في كلامي مبالغة حين أؤكد على أهمية البيتكوين الجيوسياسية. اجمع بين سوقًا ماليّة حرّة وخطوط التواصل على شبكة الانترنت، تحصلْ على حساء شديد السمية. فلننظر في طرق بدأت العملات الرقمية من خلالها تؤثر في الدولة.
أولًا، كما لاحظت جينا بيترز (2016)، فإن وجود أسواق سائلة للبيتكوين هو تهديد كبير للدول التي تعتمد على ضوابط رأس المال لتحافظ على سعر معيّن لعملتها.
البيتكوين مشكلة بالنسبة للأرجنتين والدول المشابهة، إذ يجعل الالتفاف على ضوابط رأس المال أسهل. أظهر تقرير بيترز وفيفانكو (2016) أن محاولات الحكومة لتقنين أسواق البيتكوين التي يمكن الوصول إليها من أي مكان في العالم، مخفِقة بالعموم، وأنّ أسعار البيتكوين تعكس حقيقة السوق، لا الأسعار التي وضعتها الحكومة، حسب ما أظهرته بيترز (2016). فإذا أصبحت التدفقات المالية التي يتيحها البيتكوين كبيرةً كفايةً، ستتحرر أسواق رأس المال العالمية في كل البلاد.
ليس هذا الأمر تافهًا، إذ إن نسبة كبيرة من سكان العالم يعيشون تحت سلطة ضوابط رأس المال، منهم سكان البرازيل وروسيا وإندونيسيا وتايوان والصين والأرجنتين. وهذه قطعة أساسية في عدّة الحكومة الماليّة تتآكل.
وبفضْل سيولة البيتكوين وتداوله حول العالم، فإن من آثاره كشف التلاعب بسعر الصرافة، وهو ما ناقشته الدكتورة ‘بيترز‘ في دراسة أخرى. يمكن استعمال أسعار البيتكوين للاستدلال على تقديرٍ لـ«سعر الشارع» للعملات المحلية، وإن كانت الحكومات تنشر أسعارًا كاذبة. ينمو البيتكوين سريعًا ليحقق دوره كوسيلةً عالميّةً لقياس القيمة.
مثال: نشرُ المعلومات في الشارع عن قيمة البوليفار ممنوع في فنزويلا، لأن من مصلحة النظام أن يتحكم بالروايات حول عملته. أهم موقع يلاحق أسعار الصرافة في فنزويلا، المسمى dolarToday يستعمل موقع لوكال بيتكوينز ليستدل به على سعر الدولار بالبوليفار في الشارع الفنزويلي.
فلا عجب أن أنشَط أسواق تداول البيتكوين بين الأفراد تكون في الدول التي فيها ضوابط رأس المال، والدول ذات العملات عالية التضخم، أو الدول ذات الحكومات المتقلبة المزاج. هذا التحليل الذي كتبه ‘مات أهلبورغ‘ يعتمد على بيانات موقع local bitcoins، ويظهر أن أكبر نسب تجارة البيتكوين للفرد الواحد موجودة في روسيا وفنزويلا وكولومبيا ونيجيريا وكينيا والبيرو. يقال أحيانًا إن تنافس العملات مثل الهروب من الدب، فليس عليك إلا أن تسبق أبطأ رفاقك. الأرجح أنه ليس على الدولار خطر من وجود البيتكوين، لكن العملات العشرين الأشدّ تضخمًا لا شك أنها في خطر.
كما كتب ‘هاسو‘، يقدم البيتكوين نظام حقوق ملكية مستقرًّا من دون أي اعتماد على الدولة (ومن دون التهديدات بالعنف التي ترافق الاعتماد على الدولة). قد يكون هذا الأمر غير مهم في الغرب، لأن حقوق الملكية بالعموم محترَمة فيه، لكنه مسألة حياة أو موت في مناطق أخرى. من السخرية بمكان أن أشرس نقّاد العملات الرقمية هم ممن لا سبب يدفعهم إلى سوء الظن بحكوماتهم التي تحمي مدخراتهم. إن موقف الإنسان من البيتكوين برهانٌ عليه، فإما أن يدل على أنه واعٍ بآثار التضخم الخبيثة وسوء النظام المصرفي، وإما أن يدل على خلاف ذلك. إن أصخَب منكري البيتكوين إنما يظهرون جهلهم ونظرتهم التي تختزل العالم في الدول الإنكليزية.
أكدت دراسات جديدة أصدرها ماكس راسكين وفهد صالح وديفيد يرمك بعد تقدير أزمة العملة في تركيا والأرجنتين أن الاستخدام المباشر للعملات الرقمية إنما يكون في خارج البلدان المتقدمة.
إذا حكمنا من النظرة الأولى، فقد نرى أن رؤية ناكاموتو لم تتحقق، إلا أن خيارًا جديدًا توفّر للناس واختارت الغالبية ألّا تستعمله. ولكن، إذا نظرنا في البلدان النامية، وجدنا أن القصة مختلفة شيئًا ما. إن أزمة العملة في تركيا والأرجنتين هي الأولى منذ تأسيس البيتكوين، ومن ثم فإنهما فرصة للتحقيق في أثر العملات الرقمية البديلة على العملات الحكومية المضطربة. فإذا سحبنا هذا التحقيق على بقية العملات، فقد يظهَر لنا أن رؤية ساتوشي قد أثمرت. مع أن العملات الرقمية لم تحل محل الدولار، فإن مجرد وجودها قد يكون له أثر امتناع الوجود، فقد تكون ضابطًا للسياسات التشريعية والمالية.
لا سيما وأن المواطنين، حسب ما وجد مؤلفو الدراسة «يستفيدون من وجود العملات الرقمية الخاصة»، لا سيما من خلال وجود خيار التنويع، الذي «يولّد أرباحًا معيشية للمواطنين».
ومن أهم ما وجد الباحثون:
إن وجود العملات الرقمية الخاصة يضبط السياسة المالية لأنه يخلق بديلًا للمال المحلي. هذا الضبط للسياسة الماليّة يقلل التضخم ويزيد عوائد الاستثمار، ومن ثم يشجّع مزيدًا من الاستثمار المحلي.
وكما تدلّنا مناهج الاقتصاد للمبتدئين، إنّ إنهاء الاحتكار في سوق ما، وإدخال منافسين فيها، يجعلها أعدَل للمستهلكين (الحكومات تحتكر سوق المال المحلي). ولأن لم يكن للمواطنين أي بديل، كانوا مجبرين على الادخار بالعملة المحلية وقبول التضخم. أما الآن، فقد أصبح في أيدي الناس خيار الخروج من النظام المالي المحلي، وهو ما سيكلّف المصرف المركزي كثيرًا (لأن بيع العملة المحلية يزيد سرعة المال ويزيد التضخم سوءًا). لذا فإن مجرد وجود البيتكوين يفرض انضباطًا ماليًّا من جهة المصرف المركزي الذي ربما كان لولاه يبلغ مستويات خطيرة من التضخم.
ليس لضعفاء القلوب
بسبب كل هذه المصالح الكبيرة جدًّا، فإن اختراع نظام مالي جديد هي مهمة غير سارة بالمرة. يتطلب الأمر حماسةً جامحة والتزامًا ثابتًا برؤية صارمة للمستقبل. فإذا أخذنا بعين الاعتبار عِظَم هذه المهمّة، والتهديد الوجودي الذي تشكله للدولة، رأينا أنه لن يقوم بها إلا أشدّ الناس التزامًا. ليست أعظم خطيئة لأصحاب العملات الرقمية البديلة أنهم ركبوا الحصان الخاطئ، بل هي أنهم ركبوه بقناعة غير كافية. لقد باعوا حلمًا هم أنفسهم لم يؤمنوا به حقًّا.
كم رائد أعمال عملات رقمية سيقول لك بصدقٍ تامٍّ أنه يبني نظامًا سيستمرّ عقودًا ويبارز الدولة وجهًا لوجه؟ كم واحدًا منهم سيقبل السجن لأجل معتقداته؟ قليل جدًّا، حسبما أرى.
النغمة اللطيفة التي في القمة تنتشر في الهرم المؤسساتي. ومن هنا يظهر الفرق بين «مجتمعات» المُمسكين بالعملة رغم هبوط قيمتها الذين يحثّ بعضهم بعضًا على شراء العملة وهي في نزول، والمجتمع المتماسك الذي يعتنق التقلّب ويحفظ قناعته. ظاهريًّا، يتشابه البيتكوين وكثير من المشاريع المستنسخة التي تستعمل سلسلة كتل. لكن الفارق الحقيقي هو الروح. ليس الأمر أن السلاسل الأخرى غير أخلاقية أو أنها مختارة بسبب مجموعة أدنى من القِيَم، بل الأمر أنها عدَميّة تمامًا. تفتخر بالجماليات والمظاهر دون بناء مؤسسات خالدة دون الدول. يكون التقدم والابتكار الكوني عند بناء مؤسسات خالدة غير حكومية.
لا شك أن حركة السعر تجذب كثيرين إلى البيتكوين. لكن يجذب أهل البيتكوين شيءٌ اخر أكثر عمقاً وأساسية، وهو امكانية بناء نظام متين موازٍ فعّال مفتوح ومستقل عن الحكومات والشركات التي فوق المساءلة. لا شك أن هذا الدافع لا يدفع البيتكوينيين وحدهم. لكن البيتكوين من غير شك هو السبّاق في فصل المال عن الدولة، وهو الذي عانى وطأة الهجومات السياسية إلى الآن. لم يتعرض مشروع آخر إلى هذه الهستيريا الإعلامية وهذا العدد من الحواجز المبكرة.
خلافًا للبدائل المزعومة. النجاح لمؤسسي العملات الصاعدة هو الخروج منها. أولاً البيع لقلة من الأثرياء، ثم تضخيم قيمة العملة وبيعها لصغار المستثمرين. إن الإغراء لبدء بلوكتشين جديد واضحٌ، لأن المال هو السلعة ذات أكبر إجمالي سوق مستهدف في الوجود، والإغراء هو أن امتلاك جزءٍ منه عبر إصدار عملة جديدة قد يعد بثروة قارونية. لكن الثروة لا تُلهم، لا سيما إذا كانت مجنيّة على حساب الناس الذين سيأمنون بها. إن بيع الحصّة المعدّنة قبل الطرح العام ليست طريقة ناجحة لاكتساب الدعم العقائدي المستمر من الملايين.
كما قال ‘نسيم طالب‘: لا تقل لي ماذا تفكر، بل أرني ملفّ استثماراتك. وأيّ شيءٍ أفضل للدراسة من شركة ‘Block One’، المؤسسة لعملة EOS التي طمحت إلى أن تكون البلوكتشين الأحدث، لكنها أختارت تجريد ميزانيتها العامة والإحتفاظ ب 140,000 عملة بيتكوين.
الأسئلة الوحيدة المهمة
بعد عشرة أعوام من التجارب، وسوء تخصيص رؤوس الأموال، والغطرسة، تعلمنا دروسًا قيّمة عن تراكم القيمة. أخطأ العلماء والمهندسون حين ظنّوا الثورة المالية والسياسية ثورةً تقنية. وُلدت تجاربهم مصبوغةً بوعود لغوية لحوحة:
«إذا كان في الإمكان أن ننشئ قاعدة بيانات أفضل من حيث الفعالية أو الأداء أو خوارزمية مقاومة لهجمات سيبل -Sybil-، فإننا قادرون على حل المشكلة وإنشاء العملة الرقمية التي ستنتصر في النهاية». هذه العقلية، صدق أو لا تصدق، لم تزل شائعة حتى اليوم. لكنها معيبة فلا أمل فيها. هذه التجارب هي تجارب اجتماعية وسياسية أولا. أهم العوامل في إنشاء نظام مالي جديد بالكامل ليست هي تفاصيل التطبيق التقني، بل هي تقديم أجوبة مقنعة لأسئلة مثل هذه:
- ما الذي يعطيك الحق في إصدار عملة جديدة وامتلاك سلطة كبيرة على مصيرها؟
- لماذا اخترت أن ترفض كل البدائل وتقترح أن تستبدلها جميعًا بنظامك أنت؟
- من أين أتت سلطتك؟
- كيف تكرّس العدل والمساواة في الفرص في توزيع مالك الجديد؟
- ما الذي يضمن خلو نظامك من الفساد، إذا كان حتى الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة ضعيفًا أمام القوة السياسية؟
لدى البيتكوين إجابات واضحة على كل هذه الأسئلة. أما مقلدوها فليس لديهم شيء من ذلك. بل إن مؤسسي هذه العملات المقلدة لا يدركون أصلًا أن هذه هي الأسئلة الحقيقية التي يجب التفكير فيها.
نحن نعلم أن العملات الرقمية المخصصة لقطاعات ومهن بعينها إنما هي أوهام. لم يتطلب الأمر عبقريًّا لإدراك الأمر، لكن بأي حال فالحقائق الواقعية قد ثبتت الآن إلى الأبد. إن عالم ذو عملة رقمية لكل متجر أو مهنة شبيه بعالم تحتاج فيه إلى معاملة تغيير عملات لا من أجل السفر بين البلاد كما هو الحال اليوم، بل من أجل الذهاب من متجر إلى آخر. كان مقترح هذه العملات رجعي وبائس ونحن اليوم أفضل حالًا بعد أن رفضناها. العملات الرقمية الوحيدة التي تستحق الإنشاء هي العملات التي تهدف لأن تكون مالًا، وهذا يقتضي ضرورةً مواجهة سلطة الدولة.
لكن مبارزة الدولة تحتاج إلى عشرات أو مئات الملايين من الصناديد الذين يؤمنون بمجموعة مستقرة من القيم وهم راغبون في وضع أموالهم لدعمها. إن الابتكارات في أوليات التشفير والخوارزميات المعنية بـ”مسألة الجنرال البيزنطي” لا يمكنها الإلهام وكسب الولاء والإخلاص. لابد من وجود مجموعة قيَم جوهرية تعلو فوق كل شيء. معظم المؤمنون بتعدد العملات الرقمية يبرروا موقفهم بالعبارات مبتذلة مثل «تشجيع الابتكار». هذا الكلام غير متماسك، لأنهم إذا رفضوا العملات المتمكّنة كالبيتكوين واتجهوا إلى مشروع بديل، فإنهم هم أيضًا سيواجهون اعتراضات من مقدمين العملات الرقمية الأحدث ثم الأحدث.
«لمَ نقف عند البلوكتشين الفلاني؟ لمَ لا نذهب إلى س أو ع أو ص؟» هذا السؤال سؤال مقنع. من دون وجود قيَم مشتركة معتقَدة عميقة يمثّلها المشروع الذي تختاره، لا حجّة لك في اختيار أي سلسلة بديلة، إلّا أنك أغرقت فيه استثماراتك. لذا بالضرورة، مصير كل تقدمي أن يصبح رجعيًّا.
يتميّز البيتكوين بالقيم
فما هي هذه القيم التي يعتنقها البيتكوينيون؟ البيتكوينية هي فلسفة اقتصادية وسياسية ناشئة تجمع عناصر من المذهب النمساوي في الاقتصاد واللبرتارية، مع تقدير كبير لحقوق الملكية، والتعاقدية وفلسفة الاعتماد على النفس. سيرجع بعض اللبرتاريين إلى نظرية العقد الاجتماعي، ليقول إنها إكراهية (لأننا لم نعطَ عقدًا سياسيًّا نوقعه لدى مولدنا أو بلوغنا). ليس الأمر كذلك في البيتكوين. لا يولَد أحد في البيتكوين: بل يقدم البيتكوين عقدًا صريحًا لمستخدميه المحتملين. إن لك حقًّا في المشاركة في أشدّ الأنظمة المالية شفافية وأسهلها تدقيقًا، وأمنعها على البَخْس، وأوضحها في العالم كله، ولكن لا إكراه عليك في ذلك.
من القيم الأخرى التي أعدّها أساسية في البيتكوين، التصديق الرخيص (حتى يستطيع كل الناس المشاركة)، والتدقيق الكامل (حتى لا يكون تضخم غير متوقع)، والعدل في الإصدار (إذ يدفع كل أحدٍ مهما كان منصبه «ثمن السوق الكامل» لبيتكويناتهم، سواءٌ أشتروها من المصرف أو بالتعدين)، والتوافق الرجعي (أي تفضيل الانفصالات المرنة على الانفصالات الصلبة)، وإتاحة عدّة التصديق، لمنع التواطؤ والرقابة التي تنتج عنه. اطرح هذا السؤال على عملتك البديلة المفضلة عن البيتكوين. ما هي القيم التي تدفع المشروع؟ إذا كانت هذه القيم موجودة، فإنك ستلحظ أنها بالعموم ضعيفة في أنفس حامليها، لأن الابتداع مقدَّم عندهم على الثبات.
لذا، يظهر البيتكوينيون اختلافًا عميقًا عن الاستغلاليين الذين يرون أن نجاحهم هو الخروج من مشروع عملتهم بأكبر الأرباح. أما البيتكوينيون، فالنجاح عندهم هو عندما لا يحتاج المرء إلى الخروج من البيتكوين. إن فلسفتهم الأخروية تستشرف زمانًا يكونون فيه قادرين على المشاركة في اقتصاد مغلق قائم على البيتكوين، خالٍ من تقلبات النظام المالي التقليدي. إنهم لا يحلمون بالخروج المالي، على الأقل ليس بمعنى المجازفة الاستثمارية. يحلم البيتكوينيون بنظام مبني على معيار مالي لا يبخس مدخراتهم المالية لأن التمييز الماليّ غائب تماما عنه.
وهم جادّون في أمر الحفاظ على هذه القيَم المؤسسة. إنّ جدول معروض العملة المحدد مسبقاً ليسَ شيئًا ينبغي الحفاظ عليه فحسب، بل هو شيء أساسي تمامًا في البروتوكول ونظام حقوق الملكية إلى درجة أنك لو أردت تغييره فسينهي هذا النظام القديم تمامًا. المعروض المسقوف ليس ميزة من ميزات البيتكوين، سقف المعروض هو البيتكوين نفسه. إنه أمر أساسي وجودي، كما أن موافقة المحكومين عنصر لا يمكن إلغاؤه من دستور الولايات المتحدة الأمريكية. نعم، تستطيع أن تسقط الحكومة القائمة وتقيم مكانها حكومة أوتوقراطية توافقها في الاسم، لكنها لن تكون الأصلية. إن جوهر الدولة نفسه، القائم على قيمها المؤسسة، يجب أن يتغير. هذه المبادئ ليست أمرًا مشروطًا بغيره. وليست تفصيلًا صغيرًا في تطبيق التكنولوجيا. القيَم هي النظام، والنظام يرمّز القيم.
ومن أفضلُ مثالًا من ساتوشي نفسه. ساتوشي هو البطل المضحّي الأكبر، لقد قضى عمرًا يبني البيتكوين من الصفر، لينشر بعد ذلك الكود، ويدير المشروع مدّة من الزمان، ثم يختفي، إلى الأبد. إن العملات التي عدّنها ساتوشي — اضطرارًا، لدعم الشبكة أيّام لم يكن يدعمها أحد — لم تتحرّك من مكانها. إنّ وصف هذا العمل بالأسطوري هو أمر مؤلمٌ لأنه لا يوفي ساتوشي حقّه. تجرّأ ساتوشي ليسرق أعزّ الكنوز على الدولة، وهي قدرتها على خلق المال كما شاءت، وأعطى هذا الحق للناس، بأنقى طريقة ممكنة.
فماذا فعلت الدولة؟ إذا كان التهديد كبيرًا هكذا، فلمَ لم تتدخل؟ إنّ مما يخيب الأمل، أن عند البيتكوينيين إجابةً لكل اعتراض.
الحقيقة أن المنعَ لم يكن ليوقف البيتكوين، إلا إذا كنت تعتقد أن المجتمع الدولي، الذي يتجه يومًا بعد يوم إلى الفوضى والاضطراب، سيتحد ليواجه هذا التهديد. تخيل ذلك! كوريا الشمالية، وإيران، والولايات المتحدة، والصين، وروسيا، والسعودية، كلهم في قضية مشتركة. هذا وهذه الحجة تعتبر من أفضل الحجج ضد البيتكوين عند نقّاده.
ملعونون إذا فعلوا، ملعونون إذا لم يفعلوا
لنفترض أن كل الحكومات الكبرى تواطأت لتمنع البيتكوين. لن يضرّ هذا البيتكوين إلا أنه سيجعله سلعةً للسوق السوداء. لكن هذا المنع لن يكفي لوقف البيتكوين. تخيل لحظةً واحدة سلعةً محظورة على نطاق واسع، تعتمد على قدر كبير من الطاقة لإنتاجها، وينتجها مزيج من الكيانات الصناعية وغير الرسمية، ومعظم تداولها في السوق السوداء، ومع هذا يستعملها ملايين. أقصد الحشيش طبعًا، إذ بإمكان أي أحد أن يحصل على الحشيش من تاجر قريب — سواء أكان هذا الشيء قانونيا أو غير قانوني — في أقل من نصف ساعة. إن الاعتقاد بأن حظر البيتكوين سيخفف شيوعه اعتقاد مضحك. ولن يكون منه إلا تعزيز سبب وجود البيتكوين الحرفي: الحماية من نزوات الدولة المتقلبة. إن الدولة التي تظهر أن سلعةً ماليّة تهدد وجودها، تظهر للعالم أنها كيان متشكك متسلط، وهو ما يبيّن طبيعتها الطفيلية.
ومما يثير السخرية أن أفضل رد للدولة على البيتكوين والأموال التي تستلهم البيتكوين هو تلبية مطالب المدرسة النمساوية وإصلاح نفسها. سيقتضي هذا إنهاء بخس العملة، وإنهاء النظام المالي الذي يزيد التفاوت بين الناس، وإنهاء التدخل في الدورات الاقتصادية (الذي أصلًا لا يزيدها إلا شدّة)، وإنهاء المحاولات المخفقة لتسعير قيمة المال المستقبلية، وإنهاء استعمال المؤسسات المالية كأسلحةً للحرب.
لكن تغيير أي شيء من هذه الأشياء على المدى القريب أمرٌ غير مرجح. إن النظرية الكينزية الجديدة، هي فظاعة تسارعية سُمّيت «النظرية المالية الحديثة»، ويعتقد أصحابها أن الدولة تستطيع ظاهريًّا أن تشتري مقادير غير محدودة من أي سلعة معروضة للبيع بعملتها، من غير نظر إلى العواقب. إن هذه اللحظة هي لحظة يرتقي فيها السياسيون الاشتراكيون على أكتاف ناخبيهم الذين يزدادون خضوعًا. ‘بيرني‘، ‘إليزابيث وارن‘، ‘أوكازيو كورتيز‘، ‘جيريمي كوربن‘. في عالم الدول النامية، تجد الحركة الكرشنرية التي تستعيد سيطرتها على الأرجنتين، لتهبط أسعار كل الأصول المالية متجهة إلى الصفر مع صعود الحركات الجمعية. وفي جارة الأرجنتين ذات السوق الحرة نسبيًّا، تشيلي، يتحكم محاميان شيوعيّان مصرّحان بشيوعيتهما بالأجندة الإعلامية. فنزويلا، لا بد أنك تعرف ما حدث في فنزويلا. في المملكة المتحدة، اعتنق حزب العمال سياسة مصادرة صادمة، ودعم إجراءات إكراهية مثل تصفية الممتلكات بالإكراه. وعاصمة السوق الحرة في العالم هونغ كونغ، تقبع تحت اعتداء حرفيّ من محتلّها الأوتوقراطي القاتل.
يكفي أن نقول إن الأسواق الحرة وحقوق الملكية القوية، وهما ركنا الاقتصادات الرأسمالية الفاعلة، يتعرضان لهجوم عالمي. على الأرجح لن ينعكس هذا الأمر. إن الطبقة المستضعفة حول العالم، التي يزداد فشلها، تتوق إلى مزيد من التدخل، وستقبل الإفقار الشامل إذا كان يعني إنقاصًا في التفاوت.
أما مؤسساتنا المالية، فقد تخلت عن كل مظهر من مظاهر العقلانية. لقد أرانا عصرنا المشهد المسلي وإن كان مخيفًا، لرئيس الولايات المتحدة وهو يحارب حاكم الاحتياطي الفدرالي علنًا على سعر المال. والمصالح: حَلبُ اقتصادنا المموّل تمامًا في محاولة لإعادة الانتخاب. كان هذا كفيلًا بالاستيلاء على الاحتياطي الفدرالي مفترض أنه غير سياسي. تنفق صناديق التحوط الاستثمارية في عرضٍ مذهل لإدعاء العمل، ملايين الدولارات على خوارزميات رقمية بهدف توقع معدلات الفائدة عبر تحليل رمشات عين الكهنة الأعلين للمال أثناء قرائتهم للتقارير. خير استعمال للمال.
تحت تصرفك: الآلة المالية التي لا تتوقف
معدلات الفائدة السالبة نظامٌ متّبع اليوم في كل المصارف المركزية في الدول المتطورة. بل إن صندوق النقد الدولي يبحث الآن علنًا كيف يفرض معدلات فائدة سالبة أعمق وأعمق، ومن الوسائل المتاحة البخس الإجباري لقيمة النقد. وبغض النظر إن كنت تعتقد أن للمودعين حقٌّا إلهيًّا في زيادة ودائعهم أو لا، فإنهم حتمًا يبدأون بالغضب عندما تقترح مصادرة ودائعهم. إذا كانت معدلات الفائدة السالبة العشوائية مسموحًا بها للحصول على نتائج سياسية معينة، فعند أي حد ستتوقف المصارف المركزية لتأخذ نفسًا وتعطي المودِعين مهلة؟ لقد دخل هذا الأمر في منطقة غير مقيدة، وبعيدٌ أن يقف المنهج الميكافيلي (الغاية تبرر الوسيلة) في السياسة المالية عند أي حد.
ربما لن يهلع المودعون عند معدل فائدة سالب 1%، بحجة أنهم يعتقدون أن البنك يقدم خدمة مفيدة. لكنهم سيتذمرون عند -3%، ويبدؤ تساؤلهم عن مقدار فهم أسيادهم الماليين. عند -5%، سيهرعون إلى الذهب ويبحثون عن أمر البيتكوين.
لأن كثيرًا من الناس لا يقدّرون قوة النظام، فلنلخّص العقد الأول من البيتكوين:
- دُفع أكثر من مليار دولار في رسوم التحويل
- جمع المعدنون معًا أكثر من 14 مليار دولار مقابل خدماتهم لحماية الشبكة
- أساس تكلفة كل الممسكين البيتكوينيين يبلغ تقريبًا مئة مليار دولار
- القيمة السوقية لكل البيتكوينات في سوق تبلغ تقريبًا 190 مليار دولار
- سوّت الشبكة نحو تريليوني دولار في التحويلات المالية
- تنتج شبكة البيتكوين نحو 80 إكسا هاش في الثانية (أي 8 * 10¹⁹). هذه الهاشات تكلف 19.8 مليون دولار في اليوم مستهلكة على أجهزة متخصصة.
قد تهزأ من البيتكوين، لا بأس. سيكون البيتكوين مستعدًّا لمساعدتك عندما تحتاجه. قد لا تحتاج إليه الآن، قد لا تحتاج إليه أبدًا. ولكن، مع انغماسنا المتزايد في عالم استبدادي سلطوي فوضوي، قد تشعر يومًا بالطمأنينة عندما تعرف أن نظام حماية الثروة الأعلى ضمانًا في التاريخ ينتظرك صابرًا.
إلى ذلك الوقت، سيستمرّ دأب البيتكوين.