مجتمع وثقافة

أصل المال

مقتبس من رواية “حينما هز أطلس كتفيه” | ترجمة: BTCTranslator

سمع ‘ريردن‘ صوت ‘برترام سكدر‘، خارج المجموعة، وهو يقول لفتاة كانت قد أصدرت صوت غضب: لا تسمحي له أن يزعجك. كما تعلمين، المال أصل كل الشرور، وهذا الرجل هو المنتج النموذجي للمال.

لم يعرف ‘ريردن‘ أن ‘فرانسيسكو‘ سيسمعه، لكنه رأى ‘فرانسيسكو‘ يتجه إليهم وعلى وجهه ابتسامة مهذبة مهيبة.

قال ‘فرانسيسكو داكونيا‘: أتظن إذن أن المال هو أصل كل الشرور؟ هل سألت نفسك يومًا ما هو أصل المال؟ المال وسيلة تبادل، لا يمكن أن توجد إلا بوجود البضائع المنتَجة والبشر القادرين على إنتاجها. المال هو المظهر المادي للمبدأ القائل إن البشر إذا أرادوا التعامل فيما بينهم فلا بد أن يتعاملوا بالتجارة ويعطوا قيمة ليأخذوا قيمة. المال ليس أداة للمتسوّلين، الذين يستحوذون على ممتلكاتكم بالدموع، ولا أداة للنهّابين، الذين يأخذونها منكم بالقوة. ليس المال إلا نتيجة وجود البشر المنتجين. فهل هذا في رأيك شر؟

عندما تقبل النقد بديلًا من عملك، فلستَ تفعل ذلك إلا على قناعة أنك ستبدل هذا النقد بمنتج هو عمل الآخرين. لا المتسولون ولا النهّابون يعطون النقد قيمة. لا تستطيع بحار من الدموع ولا أسلحة العالم كله أن تحول هذه القطع التي في محفظتك إلى الخبز الذي ستحتاجه لتعيش غدًا. إن قطع الورق هذه، التي كان ينبغي أن تكون ذهبًا، هي علامة شرف – علامة تجعلك مستحقًّا لطاقة البشر المنتجين. محفظتك هي تعبيرك عن الأمل بأن في العالم حولَك أناسًا لن يتخلفوا عن المبدأ الأخلاقي الذي هو أصل المال. فهل هذا في رأيك شر؟

هل تدبرت من قبل في أصل الإنتاج؟ انظر إلى مولد الكهرباء وتجرأ على أن تقول لنفسك إنها من إنتاج الجهد العضلي لوحوش جاهلة. حاول أن تنمي بذرة قمح من دون المعرفة التي تركها لك الذين اكتشفوها أول مرة. حاول أن تحصل على طعامك بالرقصات الجسدية فقط – ستدرك حينها أن العقل البشري هو أصل كل الخيرات المنتجة وكل الثروات التي عرفتها الأرض.

لكنك تقول إن المال صنعه الأقوياء على حساب الضعفاء؟ عن أي قوة تتحدث هنا؟ هذه القوة ليست قوة الأسلحة ولا العضلات. الثروة هي نتاج قدرة الإنسان على التفكير. فهل كسب المال من اخترع المحرّك على حساب الذين لم يخترعوه؟ هل كسب المال الأذكياء على حساب الحمقى؟ هل كسبه القادرون على حساب العاجزين؟ أصحاب الطموح على حساب الكسالى؟ المال يُصنَع قبل أن يمكن نهبه أو تسوّله، يُصنَع بجهد كل إنسان نزيه، كلٍّ بقدر طاقته. الإنسان النزيه هو الذي يعرف أنه لا يستطيع أن يستهلك أكثر مما أنتج.

التجارة بالمال هي لغة البشر الصالحين. المال قائم على التسليم بأن كل إنسان هو صاحب عقله وجهده. لا يتيح المال لك أن تنسب قيمة إلى عملك إلا باختيار الإنسان الذي يريد أن يبيعك جهده بالمقابل. يسمح لك المال أن تحصل مقابل عملك وإنتاجك على قيمتهما في أعين الذين يشترونهما، لا أكثر. المال يدفعك إلى إدراك أن على الإنسان أن يعمل لمصلحته، لا لمفسدته، لربحه، لا لخسارته – أن الناس ليسوا بهائم خُلقت لتحمل ثقل تعاستك – أن عليك أن تقدم لهم قيمة، لا جراحًا– أن الرابط المشترك بين الناس ليس تبادل المعاناة، بل تبادل الخيرات. يطلب منك المال أن تبيع، لا أن تبيع ضعفك لغباء غيرك، بل أن تبيع موهبتك لعقل غيرك؛ وأن تشتري، لا أسوأ ما يقدمه غيرك، بل أفضل ما يستطيع مالك شراءه. عندما يعيش الناس بالتجارة –ويكون العقل هو الفيصل بينهم، لا العنف– عندها يفوز المنتج الأفضل، ذو الأداء الأفضل، ومن ثم، يفوز الإنسان صاحب أفضل الأحكام وأعلى القدرات– وتتساوى درجة إنتاجية الإنسان ودرجة مكافأته. هذه هي لغة الوجود التي تتخذ المال أداة ورمزًا. فهل هذا في رأيك شر؟.

لكن المال ليس إلا أداة. يمكنك أن تصل بها إلى حيث تريد، لكنها لن تزيلك عن مقعد القيادة. سيعطيك المال وسيلة لتلبي رغباتك، لكنه لن يعطيك رغبات. المال هو العذاب المسلَّط على الذين يريدون عكس قانون السببية – الذين يريدون أن يمحوا العقل بنهب منتجات العقل.

لن يشتري المال سعادة للإنسان الذي لا يعرف ماذا يريد؛ لن يعطيه المال نظامًا قيميًّا إذا تجنب معرفة ما ينبغي تقييمه، ولن يقدم هدفًا للذي تجنب أن يختار هدفه. لن يشتري المال ذكاء للأحمق، ولا إعجابًا للجبان، ولا احترامًا للعاجز. إن الذي يحاول أن يشتري عقول المتفوقين عليه لتخدمه، سينتهي به الأمر ضحيّة للذين هم دونه. سيهجره أصحاب العقول، لكن الغشاشين والنصابين سيأتونه من كل فج عميق، يدفعهم قانون لم يكتشفه بعد: أن الرجل لا يكون أحقر من ماله. أمن أجل هذا تسمي المال شرًّا؟.

لا يليق بالإرث إلا رجل لا يحتاجه – رجل كان لينتج ثروته من أي مكان ابتدأ. إذا كان الوريث على قدر ماله، كان ماله خادمًا له، فإذا لم يكن، كان ماله خرابًا عليه. لكنك ستنظر حينها وتقول إن المال أفسده. حقًّا؟ أم هو الذي أفسد المال؟ لا تحسد وريثًا عديم القيمة، فلا ثروته لك ولا أنت ستتحسن إن امتلكتها. لا تظن أن الحق أن توزع عليك؛ فإن تحميل العالم بخمسين طفيليًّا بدلًا من واحد لن يعيد الفضيلة الميتة التي هي الثروة. المال قوة حيّة تموت ولا يموت أصلها. المال لا يخدم العقل الذي لا يناسبه. أمن أجل هذا تسمي المال شرًّا؟.

المال وسيلتك للبقاء. الحكم الذي تطلقه على مصدر معيشتك هو الحكم الذي تطلقه على حياتك. إذا كان أصل عيشك فاسدًا في نظرك، فلست تلعن إلا وجودك. هل تكسب مالك بالخداع؟ بالرضوخ لرذائل الإنسان أو حماقاته؟ بالانسياق للحمقى، على أمل أن تحصل على أكثر مما تستحق قدرتك؟ بخفض معاييرك؟ بفعل ما تكرهه من أجل المشترين الذين تزدريهم؟ إذا كان الأمر هكذا، فلن يمنحك مالك مقدار ذرّة من السعادة. إذا كان الأمر هكذا، فكل ما تشتريه لن يكون ثناءً لك، بل توبيخًا، ولن يكون إنجازًا، بل عارًا. عندها ستصرخ قائلًا: المال شر. شر، لأنه لن يعوض احترامك لنفسك؟ شر، لأنه لن يسمح لك أن تستمتع بفسادك؟ أهذا هو أصل كراهيتك للمال؟.

سيبقى المال نتيجة وسيرفض دائمًا أن يكون السبب. المال نتيجة الفضيلة، ولكنه لن يمنحك الفضيلة ولن يعفو عن رذائلك. لن يمنحك المال ما لم تكتسبه، لا ماديًّا ولا معنويًّا. فهل هذا هو أصل كراهيتك للمال؟.

أم إنك قلت إن حب المال هو أصل كل الشرور؟ إن حب الشيء هو معرفة جوهره وحبه. حب المال هو حب الحقيقة القائلة إن المال هو منتج أفضل القوى في داخلك، وهو مفتاحك لتتاجر جهودك بجهود أفضل الناس. إن الذي يبيع روحه بقرش، هو الأعلى صوتًا في تعبيره عن كراهيته للمال–وهو محق في أن يكرهه. محبو المال مستعدون للعمل من أجله. محبو المال يعرفون أنهم قادرون على استحقاقه.

اسمح لي أن أعطيك إلماحة عن طباع الناس: من يلعن المال يكن قد اكتسبه بغير نزاهة، أما من يحترمه فقد استحقه.

اهرب بحياتك من الذي يقول لك إن المال شر. هذه العبارة نذيرة بإقتراب لص. ما دام الناس يعيشون معًا على الأرض ويحتاجون إلى أداة يتعاملون بها فيما بينهم – فليس أمامهم، إذا ألغوا المال، إلا فوهة البندقية.

المال يتطلب منك أشرف الفضائل، إذا أردت أن تصنعه أو تحافظ عليه. فالجبناء والذين لا يقدرّون أنفسهم، والذين لا يرون معنًى أخلاقيًّا في حقهم بما يملكون، ولا يريدون الدفاع عنه كما يدافعون عن حياتهم، والذين يعتذرون عن غناهم – أولئك لن يدوم غناهم طويلًا. هؤلاء هم الطعم الطبيعي الذي تتبعه أسراب الناهبين التي تبقى مختبئة قرونًا كثيرة، ولا تخرج إلا عندما تشتم رائحة رجل يتوسل أن يُغفَر له ذنب امتلاك ثروة. ستهرع الأسراب إليه لتخلصه من ذنبه –ومن حياته، كما يستحق.

هنالك ترى صعود المعايير المزدوجة –أناس يعيشون بالعنف، لكن يعتمدون على الذين يعيشون بالتجارة لينشئوا قيمة لما يسرقونه منهم– أناس يتطفلون على الفضيلة. في أي مجتمع أخلاقي، هؤلاء الناس مجرمون، تكتَب القوانين لتحميك منهم. لكن عندما ينصب المجتمع مجرمين بالحق ونهّابين بالقانون –أناسًا يستعملون العنف لينزعوا ثروة ضحاياهم العزَّل– عندها يصبح المال هو المنتقم من صانعه. يعتقد هؤلاء النهابون أن سرقة العُزَّل آمنة، إذا هم استطاعوا سن قانون بنزع أسلحتهم. لكن نهبهم سيصبح مغناطيسًا لنهّابين آخرين، ينهبون منهم كما نهبوا هم من غيرهم. وهنا يبدأ السباق، لا إلى أفضل الإنتاج، بل إلى أفظع الوحشية. عندما يكون العنف هو الأصل، يربح القاتل على النشّال. هنالك يضمحل المجتمع، وينتشر الخراب والدم.

أتريد أن تعرف متى يأتي ذلك اليوم؟ راقب المال. المال هو مقياس الفضيلة في المجتمع. عندما ترى أن التجارة تتم بالإكراه لا بالتراضي – عندما ترى أنك إذا أردت أن تنتج فلا بد أن تأخذ إذنًا ممن لا ينتجون – عنما ترى أن المال يتدفق إلى الذين يتعاملون بالمصالح لا بالسلع – عندما ترى أن الناس يزدادون بالسلب والنهب غنًى أكثر مما يزدادون بالعمل، وأن القوانين لا تحميك منهم، بل تحميهم منك – عندما ترى أن الفساد يُكافأ وترى أن النزاهة أصبحت تضحية بالنفس – فاعلم هنالك أن مصير المجتمع محتوم. المال وسيلة نبيلة جدًّا لا تنافس الأسلحة ولا تناقش الوحشية. لا يسمح المال لوطن أن يكون نصفه أملاكًا ونصفه مسروقات.

عندما يظهر المخربون بين الناس، فإنهم يبدؤون بتخريب المال، فالمال هو درع الإنسان وأساس وجوده الأخلاقي. يسرق المخربون الذهب ويعطون أصحابه كومة أوراق مزورة. هكذا يقتلون المعايير  ويدفعون كل الناس إلى السلطة المطلقة لواضع مطلق للقيم. كان الذهب قيمة موضوعية، مكافئة للثروة المنتجة. الورق ليس إلا رهنًا على ثروة غير موجودة، يغطيه سلاح موجه نحو الذين ‹يجب› أن ينتجوها. الورق صك كتبه النهّابون القانونيون على حساب ليس لهم؛ على فضيلة ضحاياهم. ترقب اليوم الذي ترى فيه على الورقة: ‹الحساب فارغ›.

عندما تجعل وسيلة البقاء شريرة، فلا تتوقع أن يبقى الناس أخيارًا. لا تتوقع أن يبقوا أخلاقيين ويخسروا حياتهم حتى يصبحوا قوتًا لغير الأخلاقيين. لا تتوقع أن ينتجوا، إذا كان الإنتاج مستحقًّا للعقاب، والنهب مستحقًّا للمكافأة. لا تسأل: ‹من الذي يخرب العالم؟› فأنت الذي تخرب العالم.

ها أنت ذا وسط أعظم إنجازات أعظم حضارة منتجة، تسائل عن أسباب انحدارها أمامك، وأنت تسبّ دمها الذي به تحيا – المال. لستَ تنظر إلى المال إلا كما نظر إليه الوحوش من قبلك، ثم تسأل لِمَ عادت الغابة إلى أطراف مدنك. عبر تاريخ الإنسان، لم يزل النهّابون ينهبون المال بطريقة واحدة وإن اختلفت شعاراتهم: يسرقون الثروة بالعنف ثم يستعبدون المنتجين ويهينونهم ويشهرون بهم وينزعون عنهم كرامتهم. هذه العبارة التي قلتها عن شر المال، التي تفوهت بها متهوّرًا في ‹فضيلتك› أتت من زمن كانت الثروة فيه تنتج بعمل العبيد – العبيد الذين كانوا يكررون الحركات التي اكتشفها عقل غيرهم ولم يطوروها على مر القرون. ما دام الإنتاج محكومًا بالقوة، وما دامت الثروة تحصَّل بالغزو، فلن تجد أمامك شيئًا كثيرًا تغزوه. لكن عبر كل القرون التي عانت الركود والجوع، ترى الناس يمجدون النهّابين، ويجعلونهم نبلاء بالسيف، ونبلاء بالنسب، ونبلاء بالمنصب، ويكرهون المنتجين، ويجعلونهم عبيدًا، وتجارًا، وبقّالين – وصناعيين.

ومن شرف الإنسانية أنه قد نشأ، لأول مرة في التاريخ بلد للمال– وليس عندي ثناء أعلى ولا أعظم من هذا أثني به على أمريكا، لأن بلد المال يعني بلد العقل والعدل والحرية والإنتاج والإنجاز. لأول مرة في التاريخ، تحرر عقل الإنسان وتحرر ماله، ولم تعد الثروة ثروة بالنهب، بل انحصرت بالعمل، وحل صانع الثروة الحقيقي، العامل الأعظم، النوع الأشرف من الناس، الإنسان العصامي، الصناعي الأمريكي، محل السيّاف والعبد.

إذا طلبت مني أن أسمي أعظم مفاخر الأمريكيين، فسأختار أنهم الشعب الذي ابتكر عبارة ‹صنع المال› لأن هذه الفضيلة تشمل كل فضيلة. لم تستخدم أي لغة أو أمة هذه الكلمات معًا من قبل. لطالما كان الناس يرون الثروة مقدارًا ثابتًا – يُنهَب أو يُتسوَّل أو يورَث أو يُشارك أو يُصادَر أو يكتسَب. كان الأمريكيون أول من فهم أن الثروة تُصنَع. إن عبارة ‹صنع المال› تحمل جوهر الأخلاق الإنسانية.

لكن هذه الكلمات هي التي يذم بها أهل الحضارات المتعفنة في قارّات النهّابين الحضارة الأمريكية. لقد جعلتك عقائد النهّابين ترى أعظم إنجازاتك مصدرًا للعار، وترى ازدهارك ذنبًا، وترى أعظم الناس عندك، الصناعيين، وضعاء، وترى أعظم مصانعك نتيجة وملكًا للعمل العضلي، لعمل العبيد الذين تحرّكهم السياط، كأهرام مصر. إن الوضيع الذي يقول إنه ما من فرق بين قوة الدولار وقوة السوط، لم يتعلم بعد الفرق من كيسه، وأظنه سيتعلمه.

إلى أن تكتشف أن المال هو أصل كل الخير، وما لم تكتشف ذلك، لن يكون سعيك إلا إلى خرابك. عندما لا يعود المال هو الأداة التي يتعامل بها البشر، سيصبح البشر هم أدوات البشر. الدم والسياط والأسلحة – أو الدولارات. اختر خيارك –ما من خيار آخر– والوقت ينفد.


المصدر الأصلي: حينما هز أطلس كتفيه، الجزء الثان، القسم الثاني، الصفحات 387–391  من النسخة الورقية الغلاف.

Ayn Rand

روائية وفيلسوفة وكاتبة مسرحية وكاتبة سيناريو روسية أمريكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى