مجتمع وثقافة

من “كهيعص” إلى البيتكوين

التاريخ والمعنى الإسلامي للعملة المشفرة، الجزء الثاني

اقرأ الجزء الأول من المقال هنا

إن علم التشفير والرياضيات قد وجدا حاضنة لهما في الفكر الإسلامي عبر القرون. وكما بينا في الجزء الأول فإن هذا تجسّد في أمور مثل اهتمام علماء تفسير القرآن بعلم الترميز وفك شيفرة الحروف المقطعة التي استُفتحت بها 29 سورة من سور القرآن، وتجسد ذلك في كون  علم التعمية (التشفير) نفسه قد تأُسس قبل أكثر من 1151 عام على يد عالم الرياضيات المسلم الكندي، ليزدهر في ظل الحضارة الإسلامية وتصل تطبيقاته ليومنا هذا عبر اختراعات غيرت التاريخ مثل الحاسوب والإنترنت والبيتكوين. إن ازدهار علوم التشفير واللغة والرياضيات في ظل الحضارة الإسلامية هو ظاهرة تستحق التأمل ولعل لها أسباب أعمق تتصل بالأسس العقدية الإسلامية والمبادئ القرآنية.

وقبل الغوص في هذه الأسباب، تجدر هنا الاشارة أن الترميز هو أساس اللغة وأساس الرياضيات أيضا. فكلما تطور الترميز وتجريد المفاهيم اللغوية في رموز  ابسط (مثل الأعداد) يصبح بمقدورنا أن نعبر عن قيم أكبر وبالتالي تطوير مفهومنا عن هذا الكون الواسع ومحاولة الإحاطة بضخامته وتفسير  قوانينه من خلال المعادلات التي تتعامل مع هذه القيم الضخمة. وسيتضح في سياق هذا المقال أهمية معرفة الرابط بين اللغة والرياضيات بشكل أوضح.  ولعل هذا الرابط بين الأمرين يتضح أيضا عند النظر في تاريخ العلماء المسلمين ومفسري القرآن مثل الفخر الرازي (توفي 1209)الذي كان بالإضافة لكونه عالم تفسير للقرآن  أيضا فلكيا وعالم فيزياء ورياضيات.  وقد شارك الرازي بعض من علماء الحضارة الإسلامية كابن سينا وثابت بن قرة وابن ملك البغدادي في اكتشاف قوانين الحركة قبل العالم الانجليزي إسحق نيوتن (توفي 1727).

ونحن هنا لا نذكر هذه الحقائق من باب الافتخار بالحضارة الإسلامية وانجازاتها، وإنما يجب أن يشعر المسلم بالخجل لضياع هذا الروابط بين علوم التفسير والفقه من جهة والعلوم التقنية والرياضية والفيزيائية من جهة أخرى. وعلينا أن نتساءل كيف تسببت قرون من التخلف وقلة الاهتمام بالعلم وتدخل السلطة بالفكر الاسلامي بفقدان القدرة على تطوير هذه الإنجازات والانجرار وراء شكليات طقوسية ذات طابع إسلامي أضاعت معاني الإسلام الحقيقية، وكذلك كيف تسبب الانجرار وراء شكليات الحضارة الغربية فارغة المضمون في إنشاء أجيال أضاعت طريقها وأضحت تقدس الاستهلاك واللذة والقوة والعنف والدولة على حساب العلم والمعرفة والإنجازات الروحية والمادية الحقيقية النافعة. لذلك فإن إعادة اكتشاف القرآن ومعانيه الأصلية هو أمر يجب أن يأخذه كل مسلم على قدر عال من الجدية، ذلك أن طلب الهداية نحو “الطريق المستقيم” هو أمر يكرره كل مسلم عشرات المرات خلال اليوم الواحد في كل صلاة، وهو أمر يتطلب قدرا كبيرا من التواضع وليس الفخر.

“وعلم آدم الأسماء كلها”

ما هو إذا هذا الأساس العقدي القرآني الذي أدى إلى الاهتمام باللغة والرياضيات والعلوم؟

قد يستغرب البعض أن قصة آدم وحواء في القرآن تؤسس لرابطة عقدية بين العلم واستخلاف الإنسان في الأرض. ليس ذلك فحسب بل أن هذه القصة القرآنية المهمة تضع مفهوم الترميز في سياق مفهوم الحرية والمعنى من الوجود الإنساني نفسه أيضا.

ففي ذلك الحوار التأسيسي الوارد في سورة البقرة (الآية ٣٠) يتضح  أن استخلاف الله للإنسان في الأرض مرتبط بقدرته على التعلم من خلال ترميز الاشياء وابتداع الأسماء.  فالقرآن يبين أن الله عندما أعلن للملائكة أنه سيجعل على الأرض خليفة له، اعترضت الملائكة  بقولهم “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟” وكرد على ذلك علم الله آدم “الأسماء كلها” وهو ما يمكن أن وصفه بـالقدرة على الترميز، فالسورة تشرح أنه عندما عرضت بعد ذلك على الملائكة موجودات وطلب منهم تسميتها عجزت الملائكة عن ابتداع أسماء أشياء لم تكن بعلمها، بينما نجح آدم في هذا الاختبار. وبذلك تم تكريم الإنسان بأن تسجد الملائكة له عدا إبليس الذي رفض تكريم إبن آدم بناء على أصل خلقه من طين، بينما هو مخلوق من نار، وتوعد بإضلاله.

بعد ذلك لا تكتمل القصة كما هو متوقع ببدء استخلاف آدم بالأرض، وإنما تنتقل القصة لمشهد آخر وهو وجود آدم وزوجته حواء في الجنة وتحريم ثمار شجرة في الجنة عليهما. ويمكن أن يتسائل القارئ حينها: لماذا لم يرسل آدم وحواء إلى الأرض لبدء عملية الاستخلاف في الأرض؟ الإجابة على ذلك تتضح من خلال المشهد الذي يليه، وهو نجاح الشيطان في إغوائهما لتذوق ثمار الشجرة المحرمة، فحينها فقط يتم نزول آدم وحواء الى الأرض كما كان مخططا له من قبل.

للوهلة الأولى يبدو النزول للأرض بمثابة عقوبة، لكن نظرة متمعنة في هذه القصة تبين لنا أن للأمر بعد آخر لا يظهر للوهلة الأولى. فالقرار الذاتي الحر لآدم وحواء بتذوق الثمرة المحرمة هو الذي أدى في الحقيقة لاستكمال عملية الاستخلاف في الأرض كما كان مقرراً مسبقاً. أي أن هناك تسلسلاً منطقياً لصفات معينة مرتبطة ببعضها هي التي أدت لعملية الاستخلاف. فبعدما أصبح الإنسان ذلك الكائن القادر على الإبداع (إطلاق أسماء على موجودات غير معلوم أسمها) أصبح أيضا قادرا على مخالفة الأوامر التي أعطيت له. وفي تلك القدرة على اتخاذ قرار ذاتي حر يكمن الفرق بينه وبين المخلوقات الأخرى التي يمكن تشبيهها بلغة عصرنا بخوارزميات مبرمجة، ربما تكون قادرة على التعلم مثل نماذج الذكاء الإصطناعي، لكنها غير مبدعة وليست ذات إرادة حرة ووعي، وبذلك لا يمكن تحميلها المسؤولية القانونية والأخلاقية. أما الإنسان فهو بحسب رواية القرآن ذلك المخلوق المبدع القادر على اتخاذ قرار حر بحسب خطة وتقدير إلهي.

هذه القصة ذات الاهمية المركزية في القرآن تربط مجموعة من المفاهيم التي ربما لا يبدو بينها رابط ظاهر. فهي تبين أن اللغة (وهي في أساسها القدرة على الترميز) هي شرط للاستخلاف ولتقدم الإنسان وتجاوزه لحالة “سفك الدماء والفساد في الأرض” التي عرفتها الملائكة. وكذلك تربط الرواية القرآنية مفهوم الحرية والإرادة الذاتية للإنسان عن طريق التجربة والخطأ (وهو ما يعبر عنه القرآن بتذوق ثمار الشجرة المحرمة) بجاهزية الإنسان لخلافة الله في الأرض، فهذا الإنسان سيتحمل نتيجة أفعاله ويكون بذلك أهلا لتحمل المسؤولية التي لا يمكن أن تحمل بدون حرية. لقد ربط القرآن في هذه القصة اللغة (الترميز) بالقدرة على التجربة والخطأ وبالتالي الإبداع. وكنتيجة منطقية لذلك، يمكن القول أن شروط الاستخلاف في الأرض بحسب الفكر القرآني قد اكتملت باجتماع هذه الصفات كلها في الإنسان: اللغة، الحرية، المسؤولية الذاتية والقدرة على الإبداع، بالتالي هذه الإنسان سيكون ذلك المخلوق الذي سيتجاوز حالة الفساد وسفك الدماء التي اتهمته بها الملائكة، كما بين القرآن.

التوحيد كمفهوم رياضي

لكنك يمكن أن تسأل هنا: حسنا، القرآن يؤكد على أهمية اللغة وأن الإنسان الحر المبدع قادر على تجاوز حالة الحرب والدمار وسفك الدماء، ولكن أين الرياضيات في كل هذا وما علاقة ذلك بالبيتكوين؟

كما بينا من قبل فإن اللغة (أي ابتداع الكلمات) هي المرحلة المبسطة للترميز. أما الحالة المتقدمة للترميز فهي الترميز الرقمي للكلمات، وهذا هو أساس اللغات البرمجية وأساس عمل الحاسوب الذي تؤثر تطبيقاته على عالمنا الذي يتخذ الجانب الرقمي له أهمية متزايدة كل يوم، وتقنية البيتكوين هي في قلب هذا التغير حاليا.

وعلينا هنا أن نتناول موضوعا مركزيا آخر في القرآن، ألا وهو التوحيد. هذا الأمر ذا الأهمية القصوى في القرآن له علاقة مباشرة بالرياضيات وبالتالي بالبيتكوين ايضا. فلا تكاد تخلو صفحة من صفحات القرآن من الإشارة إلى التوحيد بشكل مباشر. وقد أسست سورة الإخلاص لمفهوم التوحيد في الإسلام. فهي تصف الخالق بشكل مغايرا تماما للمخلوق: “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ”. ويذكر المفسر فخر الدين الرازي أن أحد الأسماء الأخرى لهذه السورة هو “التجريد”. والمقصود هنا هو أن تجريد مفهوم الخالق من كل الصفات البشرية والمادية. هذا التجريد هو الميزة الأساسية للعقيدة وحتى للذائقة الفنية المنبثقة عن الفكر القرآني التي تنافي بشكل جذري مفهوم التجسيد والتصوير المباشر للخالق وحتى المخلوقات. وهذا هو السبب الرئيسي الذي وجّه الحضارة الإسلامية لاستخدام الحروف والكلمات والأشكال الهندسية للتعبير عن الخالق وحتى المخلوقات، بدلا من رسمها بشكل تصويري مثلما فعلت الحضارات الأخرى. إن التأكيد على وحدانية الله وضرورة عدم اتخاذ البشر بعضهم بعضا أرباباً من دون الله هو الفكرة الأساسية المتكررة في أغلب أجزاء القرآن. ويتقدم القرآن خطوة إضافية على باقي الكتب السماوية التوحيدية في تأكيده المستمر على وجود نظام واحد للكون يحكمه. ويربط النص القرآني وجود هذا النظام الموحد للكون بنفس فكرة إثبات وجود خالق واحد للكون بمنطق رياضي. وقد ورد في سورة الأنبياء ما سماه المفسرون المسلمون بـ “دليل التمانع”. وهو الدليل المستخدم لإثبات وجود خالق واحد متفرد للكون. وقد ورد في السورة “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا” والمقصود بـ “فيهما” هو السموات والأرض. وقد وردت فكرة أن الوجود المادي ناشئ من مبدئ واحد في عدة مواضع أخرى في القرآن. مثل سورة المؤمنون الآية 91: “مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ”.

هذا التفسير القرآني المعتمد على الفكر الرياضي المنطقي ينسجم مع أفكار الباحثين في فلسفة الرياضيات مثل ماكس إريك تيجمارك Max Erik Tegmark الذي خلصت أبحاثه إلى أن الفكرة التي يتأسس عليها علم الرياضيات هي فكرة “الكون الرياضي” التي تفترض أن الكون المادي هو الرياضيات وأن الوجود الرياضي يساوي الوجود المادي، وجميع البنى الموجودة رياضياً موجودة مادياً أيضاً.

إن الاتساق في الفكر القرآني ومنطقه في تفسير الظاهرة الإلهية والتجليات الخلقية هو ما جعل علم الرياضيات يجد حاضنة مثلى له في الحضارة الإسلامية. ولم يتوقف ذلك عند موضوع الرياضيات لكنه امتد لميكانيكا الآلة التي مثلها علماء مسلمون مثل الجزري (ت 1206) وعلوم الفلك وحساباته مثل فخر الدين الرازي (1209) الذي أسس لمفهوم تعدد الأكوان ونفى مركزية الأرض في النظام الشمسي معارضاً لفلسفة أرسطو.

هذا الفهم المختلف جذريا للكون والخلق أسس أيضا ذائقة فنية مختلفة جذريا عن الذوائق الفنية لمعظم الحضارات الموازية والسابقة للحضارة الإسلامية. ومن المثير للاهتمام هو أننا عندما نسبر الذوائق الفنية اللاحقة للحضارة الإسلامية، فسنجد أن هذا النوع من الفن الرياضي الهندسي المجرد لم يجد له حاضنة أخرى غير الفن المعاصر المرتبط بالحاسوب. وتقدم الباحثة لاورا ماركس (Laura Marks) في كتابها التضمين واللانهاية: النسب الإسلامي لفن الوسائط الجديد (Enfoldment and Infinity: An Islamic Genealogy of New Media Art) عددا كبيرا من الروابط بين الفلسفة الإسلامية والحوسبة من خلال دراسة المبادئ الأساسية والأطر المفاهيمية المشتركة بين المجالين. وتقول الباحثة أن الفلسفة الإسلامية ورؤيتها للواقع، تتوافق مع المبادئ الأساسية للحوسبة. وإحدى الطرق التي تؤسس بها ماركس لهذه العلاقة هي من خلال مفهوم التضمين. ويجسد هذا المفهوم وفقًا لماركس عن طريق عمل العمليات الخوارزمية في الحوسبة، حيث تنشأ الظواهر المعقدة من تفاعل مكونات أبسط. وهذا يوازي برأيها المفهوم الإسلامي للقرآن باعتباره رمزًا خوارزميًا يصف نظام الكون ونمطه. بالإضافة إلى ذلك، تبحث ماركس في دور اللغة في الفلسفة الإسلامية، ولا سيما القرآن، بوصفه نص مؤسس للعلاقة بين الإلهي والمخلوق. وتقترح ماركس أنه يمكن النظر إلى هذه العناصر النصية في القرآن على أنها خوارزميات تعمل على تفعيل الإمكانات داخل الحضارة الإسلامية تمامًا مثل التعليمات البرمجية للحاسوب.


⚡كل أسبوع أرسل لك موجز لأهم مستجدات البيتكوين، تقرأه في 5 دقائق👇


بساطة البيتكوين وبساطة القرآن

إن فكرة القرآن الاساسية غاية في البساطة، وهي أن الخالق واحد وهو منافي للمخلوقات في كل صفاته. ومن هذه القاعدة (أو الخوارزمية) البسيطة تنشأ فلسفة معقدة تجسدت في آلاف الكتب  وفي أنظمة قيمية وقانونية مفصلة ساهمت في مسيرة العلم والاقتصاد بشكل لا يمكن تجاهله. إن بساطة ووضوح واتساق العقيدة الإسلامية تشبه  بساطة ووضوح واتساق البيتكوين على أكثر من مستوى. فبساطة العقيدة كانت أساساً متيناً لتنظيم علاقات بشرية معقدة في المجتمعات المختلفة وكانت هي الأساس الذي حفز المجتمع نحو تنظيم نفسه بطرق متقدمة ساهمت في التأسيس لقاعدة اقتصادية تجارية وصناعية وزراعية متطورة كان لها الأثر الكبير على سير التطور البشري حتى يومنا هذا. كذلك الأمر في البيتكوين الذي يتبع قواعد بسيطة تنطبق على جميع الأطراف وهو ما جعله أساسا متينا للتنظيم الذاتي لمجتمع المعدنين والمستخدمين والمطورين للبرامج والخدمات العديدة التي بنيت على أساس تقنية البيتكوين.

إن تعقيد الأنظمة الأيديولوجية وجعلها غير مفهومة لعامة الناس هو أسلوب يهدف بالعادة لحجب الحقائق عن العامة وإرهابهم فكريا وجعلهم عاجزين عن مسائلة هذه الأنظمة المصممة لسلبهم حرياتهم أو إعطاء فئة معينة بالمجتمع امتيازات دون غيرها. هذا الأسلوب استخدمته الكنيسة المسيحية لقرون من أجل منع عامة الناس من معرفة حقيقة استغلال الكنيسة لموقعها الديني وتحالفها مع السلطات الطاغوتية، كذلك يستخدمه الماركسيون للسيطرة على المجتمع من قبل ما يسمى بالنخبة المثقفة التي تدعي فهم أيديولوجيا كارل ماركس التي تبدو أنها معقدة ومتطورة رغم أن أسسها غاية في الوهن والانفصال عن الواقع. وهي تخفي من خلال التعقيد والتقعير اللغوي مشكلات منطقية كبرى فيها. كذلك تستخدم اليوم القوى الاحتكارية المسيطرة على النظام المالي العالمي نفس هذا الأسلوب بالتعاون مع المراكز البحثية والجامعية لتبرير إعطاء الدولة والبنوك المرتبطة بها الحق في إصدار النقد من العدم وإفقار باقي المجتمع عن طريق التضخم.

وتصدر الجامعات والمراكز البحثية المجلدات تلو المجلدات وتنظم ما يسمى بالمؤتمرات العلمية تلو الآخرى بهدف حجب حقائق واضحة واخفاء جرائم الدول والبنوك المرتبطة بها وتقنين سرقة أموال الناس وتركيز الثروة في أيدي الأقلية المتحكمة. هذه هي طبيعة الثقافة والأكاديميا التي يمولها النظام المالي العالمي الحالي، إنها ثقافة غير متسقة وهي تخفي ذلك من خلال تعقيدات وهمية تحجب الرؤية. لذلك فهي ثقافة غير منفتحة وغير متاحة للجميع، بعكس ثقافة التوحيد القرآنية وكذلك ثقافة البيتكوين وأساسها في فلسفة المدرسة النمساوية، وهما ثقافتان تجمعهما بساطة المبادئ ووضوحها وإتاحتها للجميع.

“برهان العمل” ومركزيته في القرآن والبيتكوين

إن البيتكوين جاء كرد على احتكار إصدار النقد من الجهات الاحتكارية المتنفذة التي تحميها الدول، تلك الكيانات الكهنوتية الطاغوتية المستحدثة التي يشابه دورها وأنظمتها نظام تعدد الآلهة التي كانت سائدة في العصور السابقة. إن البيتكوين يشكل ثورة على هذا النظام وهو بذلك يتسق مع نفي الألوهية عن أي مخلوق وبالتالي جعل الناس متساويين أمام الله، وجعل الأفعال هي التي تحدد المكانة، وهذا كان هو المقياس الإلهي لإعلاء مكانة الإنسان من بين المخلوقات. إن الأساس الإلهي للحكم على الأمور هو أساس واضح يمكن ﻷي شخص في العالم أن يفهمه: “مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” (سورة النحل الآية 97). أي أن عمل الإنسان ورزقه الذي يحصل عليه من أعماله المختلفة من صناعة أو زراعة أو تجارة هو المحدد الأساسي للنتائج سواءً في الحياة الدنيا أو الآخرة. وليس هناك شيء غير الأعمال كمعيار في الفكر القرآني، وأما المعايير الأخرى فهي أبليسية، تماما مثل قول أبليس في قصة خلق آدم التي ذكرناها سابقا: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [ ص: 76].

إن أحد المميزات للورقة البيضاء التي كتبها ساتوشي ناكاموتو تأسيساً وإعلانا لإطلاق البيتكوين هو بساطتها ووضوح قواعدها وأيضا تركيزها على أهمية استخدام مفهوم “برهان العمل” (Proof of Work)كقاعدة أساسية للبيتكوين. وبرهان العمل هو خوارزمية تستخدم في تقنية البيتكوين لضمان صحة وأمان عملية التعدين وجعله صعباً ويتطلب صرف طاقة من أجل حل ألغاز رياضية. هذا يضمن توزيعًا عادلًا للعملات الجديدة بين المعدّنين، مما يعزز اللامركزية ويصعب تنفيذ الهجمات على الشبكة. هذه المميزات تنافي مبادئ عملات النظام المالي الربوي العالمي التي يعتمد إنتاجها على سلطة الدول والبنوك وآراء السياسيين ومصالحهم وهو ما ينافي القواعد الإسلامية الأساسية في المال والتجارة وتنظيم الحياة، أما مبدأ “برهان العمل” في البيتكوين فيشابه مبدأ “وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا” (الكهف ٤٩) الذي يتكرر في القرآن عشرات المرات.

إن المنطق الرياضي الذي يحكم البيتكوين هو نفسه المنطق الرياضي الذي يستخدمه القرآن ويحث المؤمنين على استخدامه. وكما احتضنت الحضارة الإسلامية المنطق والرياضيات والفيزياء وطورتها عندما كانت حرية الرأي والاجتهاد تسود المجتمعات الاسلامية (قبل أن تسيطر الدولة الطاغوتية على الفكر والسياسة والمجتمع الاسلامي) فإن الثقافة الاسلامية المعاصرة ستتحرر يوما ما من أوزار الفكر الطاغوتي وتحتضن ثقافة البيتكوين وتطورها لما ينفع الناس.

هذه النظرة التي يمكن وصفها ب “التفاؤلية” ليست مجرد آمال وأمنيات لكنها تتجسد في وقائع وعلامات ستكون موضعنا في الجزء الثالث من هذه السلسة.


أعجبك المقال؟

تحويلك يذهب منك مباشرة إلى للكاتب
أحصل على محفظة برق من هنا

[1]

بشار حميض

مستشار وباحث متخصص في الطاقة المتجددة والتحرر من خلال التقنيات اللامركزية، مزارع وراع للأغنام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى