المقالة الأصلية | المؤلف: Robert Breedlove | ترجمة: The BTC Translator
في الجزء الأول من السيادية، استكشفنا الدمار الخلّاق للدول القومية الذي تجرّه التكنولوجيا والأنظمة الاقتصادية الاجتماعية المنظمة لنفسها في العصر الرقمي. في هذا الجزء الثاني، سننظر نظرة من كثب في الإبداع الحفّاز الكامن خلف هذا الانتقال العالمي إلى السيادية: البيتكوين. إن وصف البيتكوين بـ«البنك الأجنبي الغاية» (والغاية: السابق الذي لا نظير له)، أداة ذهنية مفيدة تساعدنا على تحسين فهمنا للقوى السياسية الكبرى واعتبارات نظرية الألعاب والدوافع الاقتصادية التي تدفع هجرة رؤوس الأموال إلى أعالي البحار الرقمية في القرن الواحد والعشرين.
أعالي البحار الرقمية
«الفضاء الرقمي هو القضاء الأجنبي المطلق. اقتصاد لا ضريبة فيه. برمودا في السماء مع اللآلئ»
كتاب سيادة الفرد
كانت المياه الدولية تاريخيًّا أعظم ملاذ آمن من الدول القومية. يستعمل المقامرون والقراصنة والمهرّبون وآخرون من المذنبين هذه الأراضي التي لا حاكم عليها لينخرطوا في أعمالهم التي جرّمتها الدولة. إن عالَم المحيطات واسع الفضاء كبير الخطر والجائزة وفيه تتعاظم المسؤولية الفردية. ولكن لمَ كان القانون البحري مختلفًا عن الأنظمة القانونية التي تعمل بها الدول القومية اليابسية؟ تُظهر معادلة تكلفة وربح بسيطة السبب الأساسي: باعتبار عظم مساحة أعالي البحار وجفائها، نجد أن التكاليف الضرورية لفرض السلطة أعظم بكثير من عوائد جباية الضرائب التي يؤمَل أن تحصَّل إذا ثبّتت الدولة سلطتها على المنطقة. وحتى إذا افترضنا أن النشاط الاقتصادي في أعالي البحار كثيف بما يكفي لإنشاء نظام ضريبي رابح، فإن تكاليف الدفاع عن هذا الاحتكار (أو الاستبداد) من الدول الأخرى الساعية للربح أمر يجب النظر فيه. لهذه الأسباب الاقتصادية، تعدّ المياه الدولية أعظم «غربٍ جافٍ» تستهلك فيه الولايات موارد ضخمة لحماية استبدادها بالمنطقة من الهجمات البحرية.
حتى الولايات المستقرة لا تستطيع إجراء نشاطات تجارية ناجحة في أعالي البحار. لمّا كان تدفق المياه على الأرض من أهم ما يشكل حدود سلطة الدول (تحدد كثير من الأنهار والسواحل أشكال الدول القومية)، كانت القوة الحاكمة في هذه المناطق الحدودية هي السائدة جيوسياسيًّا. إن الوصول إلى الماء يوفر ميزات اقتصادية في نقل الطاقة أو الكتلة (والكتلة هي طاقة مجمدة) عبر الزمكان، إذ تساعد القوى الهيدروليكية للماء الإنسان على التغلب على احتكاكات الجاذبية، ومن ثم يحسن الإنتاجية كثيرًا. يستهلك نقل 10 أطنان على الأرض طاقة أكبر بكثير ممّا يستهلكه نقل المقدار نفسه على الماء. ومن مرونة الماء وقلة الاحتكاك فيه، يسرّع شبكة الطاقة التجارية وفي الوقت نفسه يعيق تأسيس سلطة دائمة. وهذا ما يجعل السلطة على الخط الساحلي مزية سياسية جغرافية كبرى. فلا شك أن وصول الولايات المتحدة غير المقيد إلى المحيطين الهادي والأطلسي كان عنصرًا أساسيًّا في سلطتها في القرن العشرين، اقتصاديًّا وعسكريًّا. وإذا حسبنا جميع الاعتبارات، وجدنا أن القوة المستبدة بالعنف التي تستطيع تطبيق أكبر القوى على البحار، هي التي تصبح الدولة القومية. كتب الاستراتيجي البحري ألفرد ماهان في كتابه الكلاسيكي أثر قوة البحار عبر التاريخ:
إن إحاطة الأرض بخلاء البحار الوسيع مزيّة دفاعية طبيعية. والتكاليف اللازمة لسلطة الجباية لمراقبة المنطقة المحيطية وتفتيشها وجباية ضرائبها صاعقة. يجب أن تركّز أنظمة الجباية جهودها على المناطق اليابسية ذات الكثافة الاقتصادية العالية لتجني ربحًا. ومما يثير الاهتمام أن الآليات الاقتصادية لأعالي البحار تساعدنا على فهم مزيّات التجارة في العالم الرقمي.
تخيل أن كل النشاط التجاري ترك أرضه اليابسية وأُجري في سفن متبعثرة في مياه العالم المفتوحة. تخيل الآن أن كل واحدة من هذه السفن التجارية لها جهاز إخفاء، يجعلها خفيّة على العين والرادار وأي جهاز مراقبة آخر. ثم تخيل أن معلومات هويات كل الأنفس المبحرة في أعالي البحار هذه، وكل الأموال التي تحوزها، وكل المحادثات بينهم، مخفيّة على نحو مشابه، في عتمة معرفية. فإذا تخيلت هذا، فتخيل أخيرًا أن هذا السوق البحري انتفخ حتى أحاط بالكون المنظور كله. ما أصعب وأغلى تنظيم اقتصاد خفي ومتسع هكذا؟ ولئن كانت هذه الخيالات بعيدة عن الواقع، فإن كل التجارة والهويات ورؤوس الأموال المودعة في الفضاء الرقمي لها المزيات نفسها من حيث الدفاع والخفاء وامتناع التتبع. ورغم عدم شيوع تقانة التشفير بعد، فإن تقدمها مستمر متسارع، يُحوّل هذا المجاز الخيالي إلى واقع رقمي للسياديين المثقفين حول العالم.
يثبت النظر في ترتيب الدول القومية في القرن العشرين أن تصوّر سلطة عبر البحار أمر صعب. هكذا، فإن البناء التخيلي الذي يقارن الفضاء الرقمي بأعالي البحار مفيد في التبصّر بالتحديات التي تواجهها كل المحاولات أحادية الطرف للسيطرة على الناس في القرن الواحد والعشرين. الآن، صار في مقدور الناس أن يلوذوا بالملجأ الأوحد لرأس المال، البيتكوين، الذي لولاه لكانوا ضحايا الاستبداد الاقتصادي. إن قوة الدولة القومية مبنية على قدرتها على مصادرة الثروة، وهي نقطة هجوم تحيّدها التقانة الرقمية تحييدًا كبيرًا. أحيانًا أفضل طريقة لمواجهة الهجوم هي مواجهته بفضاءٍ خالٍ، والفضاء الرقمي يمكّن الخلاء هذا لتحقيق اتساع مضاهٍ للاتساع الكوني. مع التقانة الرقمية، يمكن نقل المعلومات ورؤوس الأموال بسرعة الضوء، وإخفاؤها خلف جدار الطاقة المعمّاة، وتخزينها «في كل مكان ولا في مكان» بطرائق شتّى لا تنتهي، ولا يحدّها إلا خيال المطوّر. باختصار: الدفاعات الرقمية، وهي دفاعات لا تخترق، تتحدى القوة. مع مجيء البيتكوين، أصبحت المعلومات والمال والذاكرة مُدْمَجة كلها إدماجًا لا ينفك: حدثٌ معتمد على المسار يغيّر تدفّق تنظيم الذات الاجتماعي الاقتصادي.
إذا نُزعت الجسمية من المال، أدّى هذا إلى مقتضيات مذهلة. كل محاولة أحادية الطرف لنقل القيمة الاقتصادية، بالتضخم أو الضرائب غير المتفق عليها أو المصادرة المباشرة، تزيد الطلب على رأس المال المضاد للسرقة. وفي أبعد طرف من طيف المناعة على المصادرة، يشعّ نور البيتكوين الثابت. فإذا أفاق الناس على الفوائد الطبيعية لتحصين مدخراتهم في الضفة الأخرى من فجوة أعالي البحار الرقمية التي لا تُعبَر، بدأت حلقة تلقيم راجع بين تزايد محاولة الحكومة لعبور هذه الفجوة، وبين إرادة الهروب من قبضة الحكومة، فإذا اشتدّت قبضة المحاولات لضبط رؤوس الأموال، مُوّجت موجات أعظم من هروب رؤوس الأموال. في يأسٍ هازمٍ للذات، كلما اشتدت قبضة الحكومات، انسلّ من بين أصابعها المال المُطلَق المنقولية إلى الأثير الرقمي. تحكم نظرية الألعاب الفعل البشري دائمًا، من دون نظر إلى المراسيم والتشريعات.
نتيجةٌ مباشرة لإحكام قبضة الحكومة هي نموّ القيمة السوقية للبيتكوين وأمن شبكته، إلى جانب تقلّص مكافئ في خطر تملّك البيتكوين (المال الصعب سلعة فبلين). ومن الأمثلة الحديثة لهذا الأمر، حظرُ المصرف المركزي في نيجيريا البيتكوين، الذي لم يزد اعتماد البيتكوين بين النيجيريين إلا تسارعًا. في النهاية، ستصبح هذه الآلية دوامة عالمية قائمة على نظرية المعلومات، تجذب كل رؤوس الأموال إلى البنك الأجنبي الغاية: البيتكوين. مع انهيار عوائد الحكومات، ستنتهي الوظائف التي كانت تقدمها تقليديًّا، كالتصويت وحفظ حقوق الملكية والخدمات العامة والدفاع وغير ذلك، وهو ما يؤسس فراغًا في السوق يتيح لرواد الأعمال أن يشبعوا هذه الرغبات التي لم يعد يشبعها أحد. سينشأ محيط أزرق من فرص السوق الجديدة مع تفسخ احتكارات الدولة القومية. يلغي المال اللامركزي احتكارات معظم الأسواق، لأنه يقلل سطح الهجوم اللازم للتشريع الفعال والإكراه، فيجعل فائدة الإجبار أقل مع الوقت (إلا أن يكون فدية مباشرة أو ابتزازًا، لكن هذه أشياء ليست واسعة النطاق). بهذا المعنى، شراء البيتكوين هو قَصْرٌ كبير للدولتية. لقد اختارت بعض أعظم العقول في زماننا هذا مكانها في هذه التجرة التاريخية من الآن:
الحياة سلسلة من التجارات التي فيها خسائر وأرباح. الأفراد الذين يتحضرون ويتكيفون مع هذه التغيرات السياسية الكبرى سيكتسبون قوة في العالم السيادي. ومن أركان نجاح السياديين في أعالي البحار الرقمية: الوصول إلى المال، والخصوصية، والحفظ.
المصرفية الأجنبية الرقمية
«فإذا فُتح الملاذ الضريبي الأعظم من كل الملاذات الضريبية، أصبحت كل الأموال أموالًا أجنبية تحت تصرّف مالكها وحده»
كتاب سيادة الفرد
في القرن العشرين، كانت المصرفية الأجنبية وسيلة مفضلة لحماية الثروة. إن حماية الأموال من المصادرة أمر مطلوب سواءٌ من الناهب أو المنهوب، فكلاهما يريد أن يحصّن أمواله من أيادي السارقين. المصارف الأجنبية ملاذات ضريبية، ومؤسسات اجتماعية وُجدت منذ قررت الحكومات أن تموّل نفسها بالضرائب غير المتفق عليها والتضخم. ولكن الملاذات الضريبية لم تكن دومًا مصارف. فقد كان في روما القديمة مثلًا ميناء مبني على جزيرة ديلوس أُريد به تقويض الأقضية المنافسة وجذب النشاط الاقتصادي إلى مواني الجزيرة. كان ميناء ديلوس الخالي من الضريبة واحدًا من أولى الملاذات الضريبية. خسرت جزيرة رودس الإغريقية المجاورة سريعًا نشاطها التجاري لهذا الميناء، وتراجعت قوتها التجارية في العالم القديم. وهنا درسٌ مهم جدًّا: إذا سُلّح المستهلكون بالاختيار بين مقدّمي خدمات متنافسين، كان مصير السوق في أيديهم. وضوحًا، يختار المستهلكون دائمًا أن يدفعوا ثمنًا أقل من أجل الخدمات نفسها. وبالمبدأ نفسه، تندفع رؤوس الأموال إلى آمَن المخازن المتاحة في كل عصر من العصور. وفي العصر الحديث هذا، أصبحت البنوك حصونًا لحفظ رؤوس الأموال.
ولعلّ أن الحساب المصرفي السويسري أشهَر الملاذات الضريبية في العصر الحديث. في مطالع القرن التاسع عشر، جعلت سويسرا نفسها دولة محايدة. وفي القرن التالي، أصبحت بنوكها ملاذات ضريبية أجنبية للنخَب الأوروبية. بعد الحرب العالمية الأولى في أوائل القرن العشرين، بدأ ازدهار هذه الصناعة السويسرية الصغيرة. ولمّا كان الدمار الذي عانته أوروبا كبيرًا في الحرب، لجأت الحكومات إلى رفع الضرائب لإعادة الإعمار. وبفضل حيادها السياسي، لم تتضرّر سويسرا تضرّرًا كبيرًا من الحرب، ومن ثم استطاعت أن تبقي ضرائبها منخفضة بالمقارنة مع جيرانها المتحاربين. هذا الاختلاف في فلسفة الحكم جذب تدفقات عظيمة من رؤوس الأموال إلى سويسرا. استغلّت المصرفية السويسرية حياد دولتها الحاضنة ومزاياها التضاريسية بحكم إحاطة سلاسل الجبال بها في وسط أوروبا، وانتشر بذلك صيت خدمتها العالية المستوى بين الزبائن الأوروبيين. طبعًا، يرغب الناس أن «يمسكوا بمفاتيح» رفاههم المالي، وقد قدمت المصارف السويسرية تاريخيًّا لمستهلكيها ضمانات متفوقة للوصول والخصوصية والأمان. أما البيتكوين، فتتفوق بمستويات كثيرة في كل هذه الأبعاد الثلاثة.
يوفر البيتكوين خدمة عامة تسهل التدفق التجاري للملكية الخاصة، وهو من هذه الناحية يقدّم وصولًا ماليًّا عالميًّا. يمكن تخزين المفتاح الخاص — وهو حامل المعلومات الذي يتيح لصاحبه استعمال البيتكوين — في ذواكر تماثلية أو رقمية أو حتى بيولوجية. يمكن استعمال المفاتيح الخاصة لبدء تحويلات بيتكوين من أي مكان في العالم فيه وصول للاتصالات الرقمية، في أي وقت من اليوم. محافظة المرء على مفتاحه الخاص هي الكأس المقدسة لسيادته الذاتية. ومع أن تاريخ التحويلات في البيتكوين شفاف ومتاح للجميع، فإن الروابط بين المفاتيح وأصحابها لا يمكن معرفتها إلا من خلال المراقبة، ولم تزل تطويرات البيتكوين الناشئة مثل تابروت تعزّز خصوصية البيتكوين. فإذا استعملت إجراءات الأمان الصحيحة، صحّ القول أن البيتكوين ثروة خفية. من حيث الأمن، شبكة البيتكوين واحدة من أقوى شبكات الحوسبة وآمَنها في التاريخ. وبفضل رقميّة البيتكوين المحضة، يمكن تخزينه في طيف واسع من نماذج الحيازة عالية الأمان المنيعة تمامًا على المصادرة. البيتكوين هو المال الوحيد في التاريخ المنيع مناعة مطلقة على المصادرة بالتضخم. فإذا جمعنا هذه الميزات، الوصول والأمن وضمانات الحماية، جاز لنا القول إنه الملاذ الضريبي الذي لا جدال فيه، الذي اختاره سياديو القرن الواحد والعشرين.
بفضل كونه «البنك الأجنبي الغاية» في القرن الواحد والعشرين، يمحو البيتكوين الدولتية ويغذّي ثقافة عالمية ناشئة متجذّرة في السيادية.
البيتكوين أسلَم ملاذ ضريبي من التضخم أحادي الجانب، والضرائب والمصادرة في التاريخ البشري. تُرجع الشبكة المالية الرقمية الرأسماليّة «مفاتيح القلعة» لأصحابها المستحقين لها، وهم الأفراد الذين ضحوا لينتجوا ثمار أعمالهم التي يمثلها المال في السوق (الذين حافظوا على مفاتيحهم الخاصة، فالبيتكوين في المصارف والأسواق ليس بيتكوينا). في هذا النموذج الجديد، كل المال المخزن في البيتكوين مكافئٌ لـ«المال الأجنبي» تحت تصرف مالكه. يدرك المشاركون في السوق سريعًا أهمية السيادة المالية، والبيتكوين يتسارع خروجه من الأسواق إلى حيازة أصحابه السياديين:
إن القوة والحرية والسيادة التي يكتسبها الأفراد عندما يجرون تعاملاتهم المالية في البيتكوين هي نقطة شيلن (النقطة المحورية) التي لا يمكن إنكارها في أعظم لعبة عدائية بين جميع اللعب: الفعل الإنساني. والبيتكوين ليس مجرد مغيّر للعبة، إنما هو لعبة جديدة لها قوانين جديدة لا تُختَرق. يَعِد أسلوب التنظيم الاجتماعي الاقتصادي المشتق من البيتكوين بتحسين الثروات حول العالم ويحفّز في الوقت نفسه التخلي عن استعمال العنف، إلى الأبد.
نهاية السَّلْب الجماعي
«لطالما سعت السلطة في أسهل طريق للثروة، وهو مهاجمة الذين يملكونها»
ويليام بلايفير
التقدم الحضاري في قوسِه الأوسع قوّة سيادة طاردة: لأن السلطة تتجه إلى المحيط عندما تزيدنا المتاجرة في السوق إنتاجيّة بالإبداع، وفضيلةً بالتلاقح الثقافي. وعندما تصبح السيادة عامّة، لا يعود للمراسيم والعنف معنًى أمام الفعالية الاقتصادية. فإذا انحسرت عوائد السياسة والعنف (وهو الامتداد الطبيعي للسياسة)، أصبحت الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية أمرَن وأكثر لا مركزية، لأن التعاون في هذين الظرفين أربَح من السلب. مثالٌ متطرف على هذا الحال: مجتمع الصيّادين الجمّاعين، حيث لم يكن العنف يُكسب صاحبه إلا نُهوب ضحية واحدة أو قرية صغيرة، وكان تناسق المعلومات (الذي يبيّنه التطور المتقارب للأدوات والحراب القديمة) عاليًا، أي إن النزاع المسلح كان خطرًا بقدر ما هو مفيد (إذا انتصرت فيه). كانت سيّئة هذه البنية الاجتماعية الاقتصادية القديمة، رغم أنها لامركزية، هي تحقق المثل القائل «القوة هي الحق» أي إن السيادة الفردية لطالما كان يستلبها أي أحد معه «عصًا أكبر». جعل البيتكوين التنظيم الاجتماعي الاقتصادي اللامركزي السلمي ممكنًا، لأنه أول حق ملكية خاصة لا يحتاج إلى التهديد بالعنف لحمايته. هذا النقد العالمي الرقمي اللاحكومي يغيّر منطق العنف إلى الأبد، فهو ابتكار عميق للحضارة، لا نظير له ربما منذ ابتكار ساعة الوقت.
القوة هي تسريع الطاقة عبر الزمكان. إن القدرة على إسقاط القوة والدفاع ضدها جانب مهم في التعاملات البشرية. يظهر كل عصر حضاري حقائقه التقنية الفريدة التي تعكس حجم انتقال الطاقة وفعاليته بمختَرَعات العقل البشري: ومنها الأدوات والأموال والتنظيمات الاجتماعية الاقتصادية. ومن أمثلة هذه العملية، تأمّل كيف تطور السلاح البشري من الرماح إلى البندقيات ثم إلى القنابل النووية، وكل سلاح من هذه الأسلحة قادر على نقل قوة أكبر من سابقه. عادةً تحفّز الحروب الابتكارات في هذا المجال، ومن عادة الحروب أن تظهر ضرورات البقاء على الذين تؤثر فيهم. الحاجة، كما يقولون «أم الاختراع». النزاع المسلح قوة تحفّز الإبداع، وهي مرتبطة ارتباطًا عميقًا بما يميّز الفعل الإنساني، وهو نقل الطاقة عبر الزمكان بهدف تحقيق أهداف قيّمة. الحرب هي النزاع الداخلي للإرادات الإنسانية المتضادّة، والجحيم الذي أحاق بحدود الحضارات وأغرقها عبر التاريخ. لهذه الأسباب الفيزيائية، كانت الوسائل التي ينقل بها الإنسان الطاقة هي الإكراه أو العنف، وكلاهما قوة على الآخرين، وكلاهما مشتبك بالأنظمة الاجتماعية الاقتصادية.
إن حساب العنف سبب من الأسباب التي تجعل عمليات السوق الحرة تفضّل طبيعيًّا التقنيات المالية الصعبة على السرقة. ولأن تهديد العنف قائمٌ دائمًا، يفضل الناس أن يُمسكوا أصولًا نسبة قيمتها إلى تكاليف حمايتها أعظمية. أصولًا محميّة يمكن الدفاع عنها ويصعب إنتاج مثلها، منيعةً على مساعي السلب. إن القدرة على الحماية كانت ميزة أساسية في اختيار السوق الحرة للذهب مالًا. والقدرة على الحماية فرعٌ عن المحموليّة، وهي خصيصة من خصائص المال، فالأصول التي تكون نسبة قيمتها إلى وزنها عالية أسهَل نقلًا وأرخَص حمايةً. يكمّل البيتكوين خصيصة المحمولية المالية وفرعها الأمني، لأنه مال رقمي محض: يمكن نقله بسرعة الضوء وحمايته في أي وسيلة تستطيع حمل المعلومات. كان حلّ مشكلة محمولية الذهب واحدًا من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى إنشاء العملات المدعومة بالذهب، وهو ما أعطى الحكومات نقطة هجوم استطاعوا بها احتكار معروض المال. بعد أن كان الذهب ركن السوق، أُلغي معياره، ومهّد ذلك الطريق لتطبيق العملات الحكومية الأمريّة (أي المنتجة حسب أمر الحكومة): وهي آلية احتكارية تستعملها الدول القومية للسلب الجماعي لمجتمعات كاملة، من خلال التضخم والضرائب التي لم يتفق عليها.
تدهورت المصارف المركزية، التي أُريد بها أصلًا دعم القوات المسلحة وتنظيمها، وأصبحت أنظمة تمارس قوّة الاغتصاب على المواطنين بلا ضمير. إن التلاعب بمعروض المال هو الحيلة الأساسية التي استعملتها الحكومات لتغتصب السيادة من مواطنيها الأفراد في العصور التماثلية. من قطع النقود المعدنية إلى التيسير الكمي، لم يخدم التدخل في المال إلا هدفًا واحدًا: سرقة المواطنين. أعني بالتضخم هنا تحديدًا، زيادة معروض المال عشوائيًّا تحت سيطرة احتكار قانوني، ولا أعني توسيع المعروض المنتظم، كالذي يجري عند تعدين الذهب أو البيتكوين، أو إصدار الائتمان المصرفي في السوق الحرة، كل هذه أشياء مستقلة لأنها عمليات في السوق الحرة خاضعة لتكاليف الإنتاج ومعرّضة للخسارة الاقتصادية. التضخم ظاهرة غير منتظمة لا تكون في السوق الحرة.
التضخم ضريبة، ولكن قياسها الدقيق مُشكِل. يسبب التضخم حَتًّا مستمرًّا للقوة الشرائية عبر الزمن، فتحتاج إلى مال أكثر لشراء المقدار نفسه من الأشياء، وهو ما يؤدي إلى زيادة عدد ساعات العمل اللازمة لشراء المقادير نفسها من السلع الأساسية للبقاء. تقيس حكومة الولايات المتحدة التضخم خطأً (أو ربما خداعًا) من خلال مؤشر أسعار المستهلك. هذا المؤشر قائم على حساب يغيّر أساسه عدة مرات لتحقيق نسب معينة، ويستثنى منه التصنيفات «المتقلبة» كالطعام والطاقة. التقلب هنا يعني تغير الأسعار، فاستثناؤه من مؤشر يراد به قياس تغير الأسعار يهدم الأمر كله. في الحقيقة، لا يمكن قياس التضخم بمقياس واحد. التضخم ذاتي في جوهره، مثل الحسابات التي تفسدها خسارة القوة الشرائية على المشتركين في السوق. بعبارة أخرى، التضخم نسبي إلى الأهداف الفريدة التي يستهدفها كل فاعل في السوق، وهو ما يجعل كل المقاييس العامة للتضخم غير دقيقة. أدقّ مقاييس ضريبة التضخم هو نمو المعروض المالي العام، وهي نسبة مساوية تقريبًا لنسبة بخس العملات الورقية في يد أصحابها على أي مدى زماني.
يستحيل حساب التضخم بمبلغ معين بالدولار لأنه خسارة ذاتية في الطاقة الشرائية للفاعل الاقتصادي، كلٌّ حسب السلع التي كان يستهدف شراءها. بعبارة أخرى، كل مشارك في السوق يحدد مُعاملًا فريدًا للتضخم عندما يشتري ويبيع ويُمسك بالأصول. ولكن لا تغرّك هذه الذاتية، فمن وجهة نظر موضوعية، التضخم ضريبة، وإن كان شكلًا أمكَر وأقلّ مباشرة من الضرائب. بعبارة أوضح: ليس التضخم إلا ضريبة. وبصرف النظر عمّا تزعمه الدعاية الكينزية، فإن التضخم لا يجرّ أي منفعة اقتصادية لأحدٍ سوى المضخِّمين، أي حراميّة المصرف المركزي الذين يتربّحون من هذا الاحتكار المشرَّع لتزوير المال. يمكن حساب الضرائب المباشرة بطرائق أوضَح (بالدولار) لأنها مفوترة ومدفوعة بالدولار. ومع أن معظم دَفَعة الضرائب في الولايات المتحدة مدرَّبون ككلاب بافلوف ليُرسلوا استماراتهم ويدفعوا جزيتهم كل أبريل لتجنّب فظاعات دائرة الإيرادات الداخلية، فإنه واجبٌ أن ندرك أن الضرائب التي لا تحدد نسبُها بالتراضي هي بالتعريف، سَلب. هذا المَكْس بغير التراضي، وأخوه المشؤوم التضخم، فعلان إجراميّان لا أخلاقيّان لا تفريق بينهما وبين السرقة. واسمح لي أن أفصّل هذه الفكرة مرّة أخرى، ولو أنني كررتها كثيرًا: فرض الضرائب بغير تراضٍ، والتضخم، سرقة تقوم بها المصارف المركزية حول العالم ضد المواطنين.
### صورة ###
يواجه الفاعلون في السوق دوافع اقتصادية ضخمة للخروج من هذا الاغتصاب النظامي الموجود في كل مكان. المصرفية المركزية نظامٌ مؤسس لـسرقة الوقت: بقيّة من آخر بقايا العبودية في عالمٍ تقدّم أخلاقيًّا على صُعدٍ شتّى بفضل مكتسبات الإنتاجية الكبيرة التي أكسبته إياها العبقرية الريادية، وإن كان يواجه رياح اغتصاب الأموال. يمكن أن نقول إن الأخلاق رفاهية، وأن التضخم يُضعف نشرها وتوسيعها، كما أنه يهمّش الابتكارات الأخرى. من حسن حظ أهل العصر الرقمي، صار الخروج من هذه اللعبة الفاسدة ممكنًا الآن. كل إنسان يقدّر وقته أو وقت الذين في حياته، يستطيع اليوم أن يختار مالًا تضاهي ندرته ندرة الوقت. هذا التغير البسيط في المنظور يشكّل ضغطًا هدروليكيًّا من الحوافز الواعدة بهَدم العملات الحكومية ومخططاتها الهرمية في كل مكان. فإذا أردنا النظر فيما يصدّ المشاركين في السوق عن حفظ ثرواتهم بالعملات الحكومية، وما يدفعهم إلى نقل رؤوس أموالهم إلى بنك البيتكوين الأجنبي، فلننظر في هذه الأرقام:
العملات الحكومية قائمة على آليّات اقتصاديّة تدعّ الفاعلين في السوق دعًّا إلى شراء البيتكوين. وبالمثال يتّضح المقال: إذا كان المواطن الأمريكي المتوسط يدفع 10,489 دولارًا ضرائب مباشرة للحكومة الأمريكية كل عام، وبصرف النظر عن أثر التضخم الخبيث الصعب الحساب (الذي يعتمد على مزيج الموازنة والأداء والأهداف وغير ذلك)، فإن خيار حفظ المدخرات في البيتكوين قرار ثمنه 1.2 مليون دولار، على افتراض ربح سنوي بقيمة 5% على رأس المال لمدة 40 عامًا، ثم ينتفخ ليصبح قرارًا بـ 4.4 مليون دولار على افتراض أن نسبة المدخرات الضائعة 10%. إذن، بالنسبة للمواطن الأمريكي المتوسط، سؤال اعتماد البيتكوين مكافئٌ لسؤال: «هل تقبل أن تغيّر حساب توفيرك مقابل 1.2 مليون دولار مدخرات للتقاعد؟» وتذكر بعد ذلك، أن هذه الحسبة لا تشمل إلا المَكْس المباشر. وباعتبار أن الحكومة الأمريكية طبعت تقريبًا 4.1 تريليون دولار عام 2020 وحده — وهو العام الذي بلغت فيه إيرادات الضرائب 3.9 تريليون دولار فقط — وباستعمال طريقة حسابنا المذكورة أعلاه، نجد أن الضريبة الفعلية (الجامعة للتضخم والمكس) تساوي تقريبًا ضعفي الضريبة المباشرة المفروضة على المواطنين (ولو أن التضخم يضر الفقراء أكثر والمعتمدين على دخل محدود، كالمتقاعدين والمساجين). وباستقراء توسيع المعروض المالي في الولايات المتحدة من عام 2020، نجد أن مضاعفة الأرقام المذكورة تعكس الأثر الحقيقي للاغتصاب الجماعي الذي يجرّه التضخم وفرض الضرائب بغير تراض، وتعكس أيضًا عِظَم الدوافع للخروج من هذا النظام.
وضوحًا، إذا زادت معدلات التضخم والضرائب، زادت الدوافع إلى اعتماد البيتكوين لاتّقاء شرّ الدولة القومية وأكلها لرؤوس الأموال، الذي يبلغ أكثر من 700 مليون دولار، على افتراض 100 ألف دولار في حساب توفير سنوي وأن نسبة الضريبة الفعلية 20%. إن جشع الحكومات والاختيار المتاح للمواطنين الأغنياء رقميًّا، سيُؤدّيان حتمًا إلى هذه النتيجة، وستنحدر إيرادات الدولة جدًّا، وانحدار الإيرادات علامة تنذر بانهيار أي مشروع. فإذا تبيّنت هذه الحسبة للفاعلين في السوق، هُرعوا إلى البيتكوين، وسجّل التاريخ انفجار القيمة السوقية للبيتكوين وانهيار نماذج إيرادات الدولة القومية. وهنا يصبح السؤال: كيف سينظم بنو الإنسان أنفسهم صبيحة انهيار الدولة القومية؟ إن الذين يتدبرون هذا السؤال ونتائجه الاحتمالية، ويتحضرون له، سيجدون ملجأً في أعالي البحار الرقمية، حيثُ قانون الواحد والعشرين مليونًا هو «قانون الأرض».
إبحارُ السياديين
«لقد اعتادت سلطات الجباية معاملة دافعو الضرائب كما يعامل الفلّاح بقره إذ يحسبها في الحقل ليحلبها. في العصر الرقمي، تنمو لهذه الأبقار أجنحة»
كتاب سيادة الفرد
السلطة كلمة قوية: تعني أن إرادة بعض الناس مسلَّطة على غيرهم. تعتمد السلطات على دفَعة الضرائب الباقين تحت أسرها الإقليمي، أو على الأقل، الذين يريدون أن يخضعوا إلى مراسيم السلب حتى وهم خارج السلطة القانونية لحكومتهم (انظر نظام الضرائب العالمي لحكومة الولايات المتحدة مثلًا). تقوم الدول القومية على حدود محكمة معرّفة بوضوح تمارس فيها سلطاتها ونشاط جباية الضرائب. فإذا تعاظمت الضرائب والتضخم، زادت مثبّطات دافعي الضرائب عن البقاء داخل الحدود (أو على الأقل، عن الائتمار بالمراسيم). فإذا خرجت تجارة كبيرة أو رأس مال كبير من ولاية، انهارت إيراداتها الضريبية، وانحدرت ثروة الاقتصاد المضروب وثمار إنتاجيته. ولمّا كان الحفاظ على الاستقرار من مصلحة سلطات الجباية الطفيلية، كان عليها أن تلتزم الحذر فلا تقتل مضيفيها — ومضيفوها هم الاقتصادات الإنتاجية التي تحافظ عليها. على مر التاريخ، غُلب المواطنون في هذا النزاع بين سلطات الجباية ودفعة الضرائب، بسبب اعتماد المواطنين على حقوق الملكية الخاصة والمؤسسات وحكم القانون اللازم للتعاملات التجارية الفعالة. تقليديًّا، كان في إمكان صاحب القوة أن يتلاعب بأركان التعاون الاقتصادي الاجتماعي، وهو اختصاص الدول القومية. إن تحوّلية تمثيلات الإنسان لرؤوس الأموال (الأصول)، والناس (الهويات)، والعلاقات بينهم (الملك) أعطت أنجَح أصحاب الإكراه والعنف حكمًا مجانيًّا يستطيعون به ليّ قوانين المجال الاقتصادي ليلائم أجنداتهم السياسية. أمّا البيتكوين، وهو نوع خاص من الملكية الفردية، لا تغير له، ولا اعتماد على الهوية، فيتيح انفصال السياديين عن نظام المصرفية المركزية المغتصب للأموال.
«إن مصدر كلمة Authority (‹السلطة›) هو Author (‹كاتب أو مؤلف›). تكتب السلطات دورك في قصتها. أما الفرد السيد فهو بطل رواية نفسه»
مايك هِل
تواجه السلطة المؤسسية للعصور التماثلية اليوم التفكك بقعل طوفان الأسيد الرقمي الهائج. ستفكك الشبكات المنظمة لنفسها كالإنترنت والبيتكوين قيود الدول القومية على التجارة بإعطائها الإنسان وسيلة لنقل المعلومات ورؤوس الأموال عبر الزمكان بغير استئذان وإن اختلفت الولاية، كما كسرت طابعة غوتنبرغ خناق الكنيسة المركزي على تدفق المعرفة. أما سلطات الجباية، التي تعتمد اعتمادًا مطلقًا على قدرتها على حدّ الخيارات المالية لمواطنيها، فستُجبَر الآن على تقديم خدمات أكثر وأكثر لتحصل على أي إيراد. إن قدرة الأفراد على «التصويت بأرجلهم» بالخروج من مجامع العملات الحكومية تؤدي إلى عالم فيه تأكيد أكبر على الاختيار الحر، وفيه، من ثمّ، حكومات ونماذج حكم أصغر وأقلّ إكراهًا. تُعيد السيادية المسؤولية إلى النطاق المحلي، وهو ما سيؤدي إلى توسع الحق الإنساني الأوحد: الاختيار.
ترى الحكمة المتعارفة في القرن العشرين أن المال منتج تحتكره الدولة القومية. هذا الفكر التقليدي يتدهور كلما زادت الفروق بين ظروف الماضي والحاضر. يُكتَب التاريخ عندما يتراكم التفاوت بين السائد والممكن، فتثور براكين الثورة ضد المتعارف. إن احتكار الدولة القومية للمال حتمًا لا يلائم مجتمعًا رقميًّا يستطيع تنظيم نفسه على مستوًى رفيع من الفعالية، وهو ما تؤكده الظروف. تتشكل التنظيمات الاجتماعية الاقتصادية في خطوط حقلية من الثقة والأمان ناشئة عن الحقائق التقنية في عصرها، كما تصطفّ برادة الحديد قرب المغنطيس. يغير التشفير والمال الذي لا ثقة فيه أدوار الثقة والأمان في التعاملات الإنسانية. فالمؤسسات التماثلية أدوات باهظة للتثبّت التقريبي، أما الأدوات الرقمية فأدوات رخيصة للتثبّت المطلق. ستضمن القوى الاقتصادية القائمة على مبدأ «لا تثق، بل تثبّت» البيتكويني، موت المؤسسات التماثلية المثقَلة بالثقة، وازدهار التنظيمات الرقمية القائمة على التثبت في القرن الواحد والعشرين. المال هو أصل كل التنظيم الاقتصادي الاجتماعي، والسيادية انفصال يتنزّه عن فساد التاريخ الإنساني.
المال أداة اختيار مطلق في السوق. بالمعنى الفيزيائي، المال تمثيلٌ للاستطاعة، وهي في هذه الحالة القدرة على طلب عمل الآخرين مع الوقت. كل أنظمة السلطة الاجتماعية الاقتصادية في العالم مشتقة من أداة نقل الطاقة الباطنة عبر الزمكان هذه. بعبارة أخرى: المال مسيطرٌ على معظم الطاقات الإنسانية الخلاقة. بعد احتكار الذهب وإصدار المال القائم على الدين مكانه، أصبحت المصرفية المركزية هي الخيار المشترك للفاعلين في السوق. وُلدت السيادية من البيتكوين، لتكون قيامةً للخيار الفردي في عالم تسيطر عليه الدول القومية. بتسليح مواطني القرن الواحد والعشرين بالقوة لتحقيق الأكثر بالأقل، وللاختفاء في الأثير الرقمي متى احتاجوا، وللاستقلال عن مجامع الأمر والسيطرة القائمة على العملات الحكومية، يَعِد العصر الرقمي بأنه سيتميّز بطبقة اجتماعية جديدة من النخب العقلية: السياديون المثقفون. ومع إبحار مزيد ومزيد من السياديين إلى أعالي البحار الرقمية، ستزداد مجتمعاتهم هنالك غنًى وسلامًا وأخلاقًا وجاذبيّة للآخرين، مُطلِقةً دورةً فاضلة من التقدم الحضاري.
الاختيار هو الحق الإنساني الوحيد، والبيتكوين يوسّع طيف الاختيار أمام الفاعلين في السوق توسيعًا جذريًّا. إن الذين يدركون هذا الواقع الجديد، ويختارون أن يسلكوا المسلك الصحيح أوّلًا، هم الذين يرثون الأرض.
السيادية تحول سياسي ضخم يظهر أنه لا يمكن إيقافه: فكل فاعل في السوق إمّا أن يتحضر له ويعتنقه، وإما أن يُجبَر على ذلك عندما ينهار مجمع العملات الحكومية العالمي، وإنه لمنهار. كل محاولة للسيطرة على السياديين ستكون مثل محاولة السيطرة على سرب من الزرازير، والزرازير طيور تنظم أنفسها وتتفرّق وتتجمّع في طيرانها لتتجنب كل عائق في الطريق. أو ربما يجوز أن نشبه السيادية بالبحار التي لا تزال هائجة: قوّات لا تألو ولا تقف، تحكمها قوانين الطبيعة، قائمة على مبادئ الفيزياء بعيدًا عن سلطة السياسة — طاقات ستنحت شكل الواقع الاجتماعي الاقتصادي وإن كره أي كيان مركزي. عندما يحكم الاختيار الرقمي، تُملَّك اللامركزية. إن المفتاح الذي لا غنى عنه لتنظيم ذكاء الطبقة الاجتماعية الصاعدة المسماة السيادية هو بنك البيتكوين الأجنبي المعصوم.
تبدأ السيادية بالبيتكوين، ولا ندري أين تنتهي. قد ترشدنا لمعرفة هذا دراسةُ التحولات التاريخية المشابهة. في الجزء الثالث، سنستكشف تاريخ التحولات السياسية الكبرى لنميّز متحوّلات مشتركة نستخدمها لنستشرف مستقبل السيادية.