عزيزتي، هنا عليكِ أن تركضي بأسرع ما استطعتِ، لتبقي في مكانك. فإذا أردت أن تذهبي إلى أي مكان، فعليك أن تركضي بضعفَي تلك السرعة.
كان مبدأ مغامرتي في عالم الاقتصاد، محاولة فهم التضخم، وكيف يعمل نظام غير تضخمي كالبيتكوين، وكيف يغيّر الطريقة التي نفعل بها الأشياء. وكنت أعلم أن التضخم هو معدَّل إنتاج المال الجديد، ولكنني لم أعلم سوى ذلك.
يجادل بعض الاقتصاديين أن التضخم شيء جيد، ويقول آخرون إن المال «الصعب» الذي لا يمكن تضخيمه بسهولة، كالذي كان عندنا أيام معيار الذهب، لا بدّ منه للاقتصاد الصحيح. يتفق البيتكوين، بمعروضه الثابت (21 مليونًا) مع المعسكر الأخير.
عادة، لا تظهر آثار التضخم مباشرة. حسب معدل التضخم (وعوامل أخرى كذلك)، قد يكون الزمن بين السبب والنتيجة سنين عديدة. بل وإن التضخم يضرّ مجموعات مختلفة من الناس أكثر مما يضرّ غيرهم. كما أشار هنري هازلت في الاقتصاد في درس واحد: «إن فنّ الاقتصاد هو النظر إلى الآثار المباشرة والبعيدة -لا المباشرة فقط- لأي فعل أو سياسة، وهو تعقّب عواقب هذه السياسة لا على مجموعة واحدة، بل على كل المجموعات».
من اللحظات التي أضاء فيها مصباح رأسي، اللحظة التي أدركت فيها أن إصدار عملة جديدة -طبع مزيد من المال- نشاطٌ اقتصاديّ مختلفٌ اختلافًا كاملًا عن كل الأنشطة الاقتصادية. فإذا كانت السلَع الحقيقية والخدمات الحقيقية تقدم قيمة حقيقية لناس حقيقيين، وهي كذلك، فطباعة المال تفعل نقيض ذلك تمامًا: إذ تأخذ القيمة من كل أحدٍ يملك العملة التي تُضَخَّم.
«مجرّد التضخم، أي مجرّد إصدار مزيد من المال، وهو ما يرفع الرواتب والأسعار، قد يبدو كأنّه خلق لمزيد من الطلب. ولكن من حيث الإنتاج الحقيقي وتبادل الأشياء الحقيقية، هذا الكلام خاطئ.»
هنري هازلت
إن قوة التضخم المدمّرة تظهر حالما يصبح التضخم كثيرًا. إذا أفرَط تضخُّم عملة ما، تنحدر الأمور انحدارًا سريعًا. مع انهيار العملة المتضخمة، تُخفق في حفظ القيمة مع الوقت، ويُهرَع الناس إلى شراء أي بضاعة يستطيعون شراءها.
أثرٌ آخر للتضخم المفرط هو أن كل المال الذي ادّخره الناس في حياتهم سيتختفي فعليًّا. سيبقى المال الورقي في محفظتك، لا شك. ولكنه لن يكون سوى هذا: ورق بلا قيمة.
يتراجع المال من حيث القيمة في ما يسمّى تضخّمًا «خفيفًا» أيضًا. لكن الأمر يحدث ببطء فلا يلاحظ الناس تقلّص قوّتهم الشرائية. وإذا عملت الطابعات، كان التضخم أسهل ما يكون، وقد يتحوّل التضخم الخفيف إلى تضخم كبير بكبسة زر. كما أشار فردريك حايك في بعض مقالاته، التضخم الخفيف يقود عادةً إلى التضخم الكامل.
«التضخم ‹الخفيف› المستمر لن ينفع، لن يقود إلا إلى تضخم مفرط».
فردريك حايك
التضخم مراوغٌ لأنه يفضّل الأقرَبين من آلة الطباعة. لا يدور المال في السوق ولا ترتفع الأسعار إلا بعد حين، فإذا استطعت أن تمسك بالمال الجديد قبل أن تقل قيمة المال في أيدي غيرك، فأنت أمام المنحني التضخمي. هذا أيضًا هو الذي يجعل التضخم ضريبةً خفيّة لأن الحكومة تستفيد منها على حساب كل أحد غيرها.
«لا أعتقد أنها مبالغة أن نقول إن التاريخ ما هو إلا تاريخ التضخم، وعادةً تاريخ تضخّمات دبّرتها الحكومات لتُربِح نفسها».
فردريك حايك
إلى الآن، كل العملات التي تتحكم بها الحكومة إمّا أنها استُبدلت وإمّا أنها انهارت تمامًا. مهما كان معدّل التضخم صغيرًا، النمو «المستمر» ليس إلا كناية عن النمو الأسّيّ. في الطبيعة وفي الاقتصاد، كل الأنظمة التي تنمو أسّيًّا ينتهي بها الأمر بالاستقرار أو بالانهيار الكارثي.
ولعلّك تقول في نفسك «لن يحدث هذا في بلدي». لكنك لن تقول ذلك إذا كنت من فنزويلا، التي تعاني اليوم من التضخم المفرط. بمعدّل تضخّم بلع مليونًا بالمئة، لا قيمة للمال.
نعم، ربما لا يحدث الأمر في السنتين الآتيتين، وربما لا يحدث لعملة بلدك أنت. ولكن نظرة إلى قائمة العملات التاريخية تظهر أنه سيحدث لا محالة إذا طال الزمان بالعملة. أتذكر من هذه القائمة بعض العملات وكنت أستعملها: الشلن النمساوي، والمارك الألماني، والليرة الإيطالية، والفرنك الفرنسي، والجنيه الأيرلندي، والدينار الكرواتي، وغيرها. استعملت جدّتي الكرون النمساوي المجري. مع مرور الوقت، ستنتقل هذه العملات التي نستعملها اليوم ببطء ولكن بلا ريب، كلٌّ إلى مقبرتها. سيتضخم بعضها، وستحلّ عملات جديدة محلّ بعضها. ستصبح قريبًا عملات تاريخية. سنجعل هذه العملات باطلة.
«أظهر التاريخ أن الحكومات لا بد أن تستسلم لإغراء تضخيم المال».
سيف الدين عموص
بمَ يختلف البيتكوين؟ خلافًا للعملات التي فرضتها الحكومات، لا يمكن أن تقنّن الحكومات السِّلَع المالية، ولكن من شأن هذه السلع بقوانين الفيزياء أن تبقى بل وتحافظ على قيمتها مع الوقت. أفضل مثال عن هذا إلى اليوم هو الذهب، كما يظهر معدّل الذهب إلى الثوب الجيد لم يزل الذهب حافظًا قيمته مئات السنين بل آلاف السنين. قد لا يكون الذهب «مستقرًّا»، والاستقرار مفهوم مُشكِل أصلًا، ولكن قيمته التي يحفظها بقيت على الأقل في الدرجة الأسّيّة نفسها.
إذا حفظت السلعة المالية قيمتها حفظًا جيّدًا مع مرور الوقت وتغير المكان، فهي عملة صعبة. أما إذا لم تحفظ عملتها، وتضخمت وتدهورت، فهي عملة سهلة. إن مفهوم الصعوبة أساسي لفهم البيتكوين وهو مستحق لمزيد من الفحص العميق. سنرجع إلى هذا المفهوم في آخر درس اقتصادي: المال السليم.
يعاني مزيد ومزيد من البلدان التضخم المفرط، ويواجه لذلك مزيد ومزيد من الناس واقع المال الصعب والمال السهل. إذا كنّا من أصحاب الحظّ، قد يُجبَر بعض المصرفيين المركزيين على إعادة النظر في سياساتهم المالية لتقويمها. ومهما يكن من أمر، فإن الأفكار التي جنيتها من البيتكوين أفكار نفيسة، مهما كانت النتيجة.
علّمني البيتكوين عن ضريبة التضخم الخفية، وكارثة التضخم المفرط.