مجتمع وثقافة

من “كهيعص” إلى البيتكوين

التاريخ والمعنى الإسلامي للعملة المشفرة، الجزء الأول

اقرأ الجزء الثاني من المقال هنا

ليست الأمور دائما كما تبدو للوهلة الأولى. ولا بد دائما من نظرة متعمقة لفهم الظواهر المختلفة في حياتنا. وهذا ينطبق على عنوان هذا المقال ومتنه أيضا. فعنوان هذا المقال يمكن أن يعتبره البعض أنه محاولة أخرى من أحد الدعاة الإسلاميين المتحمسين الذين يبحثون عن أصل إسلامي لكل اختراع  حديث. لكنني هنا لست البتة مهتما بهذا النوع من الأساليب الدعوية التي  أثبتت خطأها مرة بعد أخرى وساهمت في زيادة الكسل الفكري والشعور الفارغ بالفوقية ونفور الكثيرين من بعض هؤلاء الدعاة. هدف هذا المقال هو فهم البيتكوين ووضعه في إطاره التاريخي وتبيان مفصليته في التاريخ البشري وعلاقته العميقة  بالفكر الاسلامي. ولربما لن يستسيغ هذا الفهم الجديد الكثير من المفكرين الإسلاميين والحداثيين. لكن هذا لا يهم، لأن المفاهيم والتغيرات الكبرى في التاريخ، مثل انتشار الإسلام أو الرأسمالية أو الاختراعات المفصلية مثل الزراعة أو المطبعة أو الانترنت أو البيتكوين، كلها تفعل فعلها في حركة التاريخ دون أن تهتم لآرائنا أو أذواقنا أو جهلنا. وما يهم في النهاية هي النتائج العملية التي ستغير نظرتنا للواقع وهو ما سيفرض نفسه في النهاية رغم مقاومتنا للتغيير أو مقاومتنا لإدراكه.

إذا كنت ممن يتعامل بالبيتكوين بالطريقة الصحيحة وتتبع المبدأ البيتكويني الأساسي “ليست مفاتيحك إذا ليست بيتكويناتك” فإنك بلا شك قد شاهدت وحفظت مفاتيح محفظتك اللامركزية في مكان آمن لا يمسه إلا الموثوقون من عائلتك. إنها في العادة إثنا عشر كلمة عشوائية بلا رابط معين بينها، لكنها مفاتيح، نستطيع أن نقول بكل ثقة أنها سحرية، مثل تلك الجملة الشهيرة في قصة علي بابا والأربعون حرامي “إفتح يا سمسم” التي تفتح لعارفها أبواب كنز عظيم مخبأ بالجبل. إلا أن البيتكوين أكثر سحرا من هذه القصة، فاللص في قصة علي بابا كان محصورا بحجم ذلك الكهف ومكانه الذي كان يحتاج أن يعود إليه في كل مرة، وهذه كانت نقطة ضعفه التي كشفت أمره في النهاية وتسببت في خسارته كنوزه.

واقع الأمر أن عددا كبيرا متزايدا من الناس لا يقل عددهم عن ٢٠٠ مليون شخص يخزن اليوم مدخرات بمبالغ بدون حدود قصوى في شبكة البيتكوين باستخدام مفاتيح المحفظة الإلكترونية يتمكنون من نقلها بسرعة حول الكرة الأرضية وحتى إلى الفضاء وإلى أي مكان آخر ربما تصل له شبكة الإنترنت. ولا يحتاجون في ذلك الاعتماد على خدمات شركة أو بنك أو دولة أو عصابة من اللصوص، وهم بذلك غير محدودين بمكان معين لحفظ مدخراتهم.

لكن لفهم كيف يتم ذلك يجب أن نوضح بعض المفاهيم:

أولا، ما هو حفظ المدخرات؟

حفظ المدخرات هو طريقة لحفظ الطاقة. نحن نعمل، أي نصرف طاقة ذهنية أو عضلية، ونكسب مالا من جراء هذا العمل ثم نحتفظ بهذا المال الذي يعبر عن الطاقة التي بذلناها. تعارف الناس فيما بينهم أن المال بأشكاله المختلفة عبر التاريخ هو المقياس المعبر عن هذه الطاقة. ومن هذا المال المدخر نفسه نستطيع أن نستخرج الطاقة التي خزنت فيه. ويتم ذلك عندما نعطي المال للآخرين، حينها يبذل هؤلاء طاقة من أجل تقديم خدمة أو بضاعة لنا. أي أن الأمر يدور حول حفظ وصرف الطاقة بشكل أساسي.

ثانيا، ما هو المال؟

تاريخيا كانت هناك مراحل مختلفة مرت على المال وشكله. لكن ما يهمنا هنا هو أنه في السابق كان الوسط الذي يتم به حفظ الطاقة وصرفها هو الذهب أو الفضة بشكل أساسي. ثم ظهر النقد الورقي الذي تصدره الدول وتمنع التداول بغيره وتمنع الأفراد من إصداره، وتطور الأمر مع الوقت حتى أصبح المال مجرد سجل ورقي في البنك، وفيما بعد أصبح هذا السجل رقميا بدون حتى ورق. فالبنوك تنتج النقد اليوم عن طريق إصدار الديون دون حتى الحاجة لتجسيده بشكل فيزيائي مرئي، وحتى دون أن يكون لإنتاجه محدد حقيقي أو طاقة معينة يجب أن تصرف لإنتاجه، لذلك نرى دولة بعد أخرى تعاني من التضخم وفقدان المال لقيمته، ذلك أننا نعيش حاليا في نظام مالي غير مبني على معيار الذهب أو أي معيار آخر واضح في الحقيقة، سوى مصالح وإرادات مجموعة من البنوك المركزية والسياسيين.

ثالثا، ما هو البيتكوين؟

شبكة البيتكوين هي الآن أكبر شبكة لا مركزية في العالم تخزن بها قيم طاقة هائلة ومن ثم يتم استخراجها عند صرفها من أجل الدفع مقابل خدمات. إنها شبكة هائلة تحتوي على قواعد بيانات ومجموعات ضخمة من الأرقام التي تشكل مفاتيح سرية لعدد غير محدود من المستخدمين. طاقة تعدين حاسبوية هائلة تصرف من أجل حل مسائل رياضية، منها تستخرج هذه الأرقام أو المفاتيح السرية للبيتكوين. أي أننا لأول مرة في التاريخ البشري نستطيع أن نخزن ومن ثم أيضا أن نستخرج حجما هائلا من الطاقة ليس في مادة فيزيائية مثل الذهب تتطلب وجود حيز لتخزينها ويتطلب نقلها إجراءات أمنية ولوجستية معقدة، وأيضا لسنا بحاجة لنقد أو قواعد بيانات حكومية تعتمد على سلطة الدولة أو البنوك وتتعرض لفقدان القيمة بسبب التضخم. في شبكة البيتكوين لدينا ظروف مختلفة تماما: مجموعة من الرموز في شبكة تحكمها قواعد رياضية صارمة في برنامج حاسوبي مفتوح المصدر تعارف عليه مئات الملايين من المستخدمين والمعدنين على مدى ١٥ عامًا. هذا كله بدأ بتجربة على حاسوب شخص (أو ربما مجموعة من الأشخاص) تحت اسم ساتوشي ناكاموتو في عام 2009 وتوسعت التجربة مع الوقت حتى أصبحت اليوم واقعا ماليا لا يمكن تجاهله، فأكبر شركة استثمارية في العالم وهي بلاكروك، والتي حارب مديرها لاري فينك البيتكوين لسنوات عديدة، اضطر في نهاية المطاف لقبول البيتكوين، وفي هذا العام أصبحت بلاكروك صاحبة إحدى أكبر صناديق المؤشرات المتداولة (ETFs) للبيتكوين بقيمة استثمارية تبلغ في وقت كتابة هذا المقال حوالي ١٧ مليار دولار أمريكي ولحقتها العشرات من الشركات الاستثمارية الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا والصين وغيرها بقيم استثمارية مليارية بعضها تجاوز ال ١٨ مليارا بالدولار الأمريكي.

ومع أهمية هذا الإقبال والنجاح الكبير لهذه الصناديق والشركات في منتج يعتمد على البيتكوين إلا أن الأهمية والتحول التاريخي الكبير والجذري الذي  يمثله البيتكوين لا يكمن في تبني هذه الشركات له وإنما  يكمن في كونه هذا الوسط الرقمي اللامركزي خارج سيطرة أي جهة بعينها والذي يمكن من خلاله تخزين ونقل وتبادل الطاقة بكميات وسرعات هائلة عبر الانترنت. وما يميز  البيتكوين ويجعله مغايرا للأشكال المتعددة للعملات الرقمية التي ظهرت بعده هو أنه محدود العدد حيث لا توجد في البروتوكول الذي يحكم البيتكوين أكثر من ٢١ مليون وحدة من هذه العملة، وهو بذلك العملة الصعبة الأكثر ندرة في العالم. حتى أنه هذه السنة (2024) أصبح أكثر ندرة من الذهب نفسه حيث نزل مستوى انتاج وحدات البيتكوين عن ٢٪ من مجموع وحدات البيتكوين التي تم تعدينها عبر الزمن، وسيستمر مستوى الإنتاج هذا بالتناقص كل أربع سنوات حتى تعدين اخر وحدة بيتكوين ورقمها ٢١ مليون. هذا كله يتم وفق قواعد تحكم شبكة البيتكوين ولا يمكن تغييرها إلا إذا اتفق كل المستخدمين على ذلك، وهو أمر  أقرب للاستحالة. وقد حاولت في السابق جهات تعدينية وحكومية وغيرها التأثير على قواعد البيتكوين لكنها فشلت في ذلك، لذلك فإن ميزة البيتكوين المهمة هي أنه لا يمكن تغيير قواعده كونه لا تسيطر عليه شركة أو جهة أو مجموعة بعينها.


⚡كل أسبوع أرسل لك موجز لأهم مستجدات البيتكوين، تقرأه في 5 دقائق👇


ستسأل: ما علاقة ذلك بمفاتيح سور القرآن مثل مفتاح سورة مريم “كهيعص” المذكورة في العنوان؟

في القرآن نقرأ أن خلق هذا الكون كان بكلمة “كن”. طاقة هائلة انبثقت ونشأ بها هذا الكون الفسيح وكان مفتاح ذلك حرفان هما الكاف والنون. بالنسبة للعقل الحداثي هذا الأمر ليس إلا أسطورة أو في أحسن الأحوال لا يمكن إلا أن يكون مجازيا كما يقولون. لكننا اليوم أصبحنا أقدر على فهم مثل هذه المفاهيم ومحاولة الإحاطة بعمقها.

إن القرآن و الديانات الإبراهيمية بشكل عام تعطي للغة دورا محوريا، ففي إنجيل يوحنا نقرأ “في البدء كان الكلمة”. ويتميز القرآن بين الكتب السماوية باستخدام اللغة والكتابة والتشفير بشكل لم يفهمه المفسرون القدماء والمحدثين حتى الآن. فالقرآن هو النص الأول في التاريخ الذي يرد فيه نفسه تحد لغوي بحت لباقي البشر بأن يأتوا بمثله. وهذه هي حالة فريدة في الروايات الدينية المليئة بمعجزات مادية خارقة للأنبياء والقديسين. أما في القرآن الذي انتشر وآمن به مليارات البشر على مر التاريخ، فاللغة نفسها هي عنوان التحدي والدليل على الإعجاز والمفتاح لطاقة بشرية هائلة غيرت مجرى التاريخ.

وجود مجموعة من الحروف التي لا يوجد بينها رابط منطقي ظاهر تستفتح بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن (مثل: “أ ل م” أو “أ ل ر”) هو أمر ليس له سياق تاريخي معين في الكتب السماوية قبل الإسلام وقد حير المفسرين ولم يستطيعوا تقديم جواب شاف له حتى الآن. والرأي الأكثر تداولا في وجود هذه الحروف المقطعة هو أنه أتى من باب التحدي لغير المؤمنين بنبوة رسول الإسلام، الذي لم يرو عنه في القرآن كغيره من الأنبياء معجزات مادية محسوسة، وإنما قدم مجموعة من النصوص اللغوية دليلا على صدق نبوته. إن هذه الحروف بمثابة إعلان بأن حروف اللغة متاحة لكل الناس ولكن التحدي يكمن في إمكانية ترتيبها وتنسيقها لإنتاج نص منافس للقرآن يستقطب ويفعل طاقة مليارات المؤمنين. وقد ورد في القرآن في سورة يونس ( الآية 38) ما يمكن اعتباره تأكيدا لهذا التفسير: ” أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”. هذه هي قوة الكلمة، وهذه هي الطاقة التي تشكل مجموعة من الحروف مفتاحا لاستخراجها.

لكن الأمر لا يقتصر على مجرد تشابه في استخراج الطاقة بين النصوص الدينية والبيتكوين. إن للقصة أبعادا تاريخية وفلسفية وفنية أعقد من ذلك. فقد بقيت هذه الحروف المقطعة دون رابط بينها ظاهر للقارئ موضوعا للتأمل والتأويل والتفكر لمحاولة فك سرها بطرق عديدة. ولعل أقرب هذه الطرق لموضوعنا هو محاولة المفسرين استخدام حِسَاب الجُمَّل لتفسير هذه الحروف. والجُمَّل هو طريقة في الحساب تعتمد على العد باستخدام الحروف الأبجدية، إذ يُعطى كل حرف رقما معينا يدل عليه.  حساب الجُمَّل  يضفي على النص بعدا إضافيا غير ظاهر، وهي طريقة قديمة استخدمت في اللغات السامية وفي الهند أيضا. واستمر حساب الجُمّل ليومنا هذا يستخدمه العرب والمسلمون وغيرهم في المعاملات المالية وعلوم الفلك والأوزان.  ويعد كتاب «القانون المسعودي» لعالم الرياضيات والفلك أبي الريحان البيروني (توفي ١٠٤٨ م) أبرز مثال تاريخي لاستخدام هذا النوع من الحساب، والبيتكوين يستخدم أيضا نظاما شبيها بذلك. فلتسهيل حفظ مفاتيح البيتكوين من قبل المستخدمين استعان مبرمجو البيتكوين بطريقة تشبه حساب الجُمّل حيث اختيرت 2048 كلمة انجليزية مختلفة للتعبير عن 2048 رقما تستخدم لإنتاج مفتاح مميز لكل محفظة جديدة لتسهيل حفظه، في البروتوكول المعروف ب BIP 39.

إن تقنية البيتكوين في أجزائها العديدة والمعقدة تعتمد على التشفير الحاسوبي. ومن المعروف نسبيا أن علم الحاسوب لم يكن له أن يتطور دون إسهامات علماء مسلمين مثل محمد بن موسى الخوارزمي (توفي 847 م) الذي سمى الغرب المصفوفة الحسابية بـ (algorithm) بناءا على اسمه (الخوارزمي)، وكذلك إسهامه وغيره من العلماء المسلمين في تطوير مفهوم الصفر والتوسع في استخدامه، وهو الأساس الذي بني عليه التشفير الثنائي (binary code) (صفر-واحد) الذي فتح الباب لعلم الحاسوب الذي نعرفه اليوم. لكن ما هو معروف بشكل أقل هو أن علم التشفير نفسه قد ولد في ظل الفكر الإسلامي وسماه العلماء المسلمون بعلم التعمية. وقد كان يعتقد سابقا أن العالم أبن الدريهم (توفي 1360م) هو مؤسس علم التعمية، ذلك أن جل مؤلفاته تدور حول هذا العلم. ومن مؤلفاته أيضا “كنز الدّرر في حروف أوائل السور” الذي بحث فيه معاني الحروف التي استهلت بها تسع وعشرون سورة في القرآن.  لكن وفقا مخطوطة لأبن الدريهم نفسه تم العثور عليها في 2008[1] فقد استخدم عالم الرياضيات المسلم الكندي (توفي 873 م) طريقة “تحليل التكرار” لإنشاء نص مشفر، وأنتج كتابًا عن التشفير بعنوان “رسالة في استخراج المعمى” في القرن التاسع الميلادي.

أي أن علم التشفير له جذور أعمق بخمسمئة سنة على الأقل في التاريخ الإسلامي مما كان يظن من قبل. وهذه أيضا هي النتيجة التي توصل إليها ديفيد كان (David Kahn) في كتابه الشهير “كاسرو التشفير” (The Codebreakers)، الذي أقر فيه بأن هذا العلم قد نشأ عند العرب، ونقل عن ابن الدريهم في كتابه  (مقاصد الفصول المترجمة عن حل الترجمة) بالتفصيل ثمانية أنظمة تشفير تناولت  طرق تعمية الاستبدال المعروفة بالانجليزية بالـ (Substitution Ciphers) وهي أقرب ما يكون للجدول المعروف حاليا باسم  (Tabula Recta)  الذي ظهر ك “اختراع” للألماني يوهانس تريثيموس (Johannes Trithemius) الذي ولد في عام 1462 أي بعد 152 عاما من ولادة ابن الدريهم. وهذا النوع من التشفير يعد الأساس للبرمجة والتشفير الحاسوبي.

 لكن ما هو السر في أن البحث في تاريخ التشفير والرياضيات والحاسوب سرعان ما يقود إلى الحضارة الإسلامية؟ هل هي مجرد صدفة تاريخية أم أن للأمر بعدا آخرا؟ في الجزء الثاني من هذا المقال سنتناول  هذا الموضوع بمزيد من التفصيل وبإجابات مدهشة تظهر مدى عمق الفكر الرياضي والبيتكويني في فلسفة الإسلام.


أعجبك المقال؟

تحويلك يذهب منك مباشرة إلى للكاتب
أحصل على محفظة برق من هنا

[1]

بشار حميض

مستشار وباحث متخصص في الطاقة المتجددة والتحرر من خلال التقنيات اللامركزية، مزارع وراع للأغنام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى