المقال الأصلي | المؤلف: Der Gigi | ترجمة: BTCTranslator | تاريخ الكتابة: 666053 | رخصة النشر: CC BY-SA 4.0 license
قمر واحد كالساعة في السماء
أعلن أن الوقت لا خاطئ ولا صواب
– روبرت فروست، أليفُ الليل (1928)
لم يزل الوقت اللغز الأكبر. الوقت ليس أكثر من مفهوم؛ نحن لا نعلم إن كان موجودًا حقاً..
– كليفورد دونالد سيماك، كوكب شكسبير (1976)
يقول المثل إن الوقت من ذهب. ومن ثم فإن المال أيضًا وقت: أي تمثيل للطاقة الاقتصادية المشتركة التي تخزنها الإنسانية. لكن الرابط بين الوقت والمال أدق وألطف مما يظهر أول الأمر. إذا كان يمكن إنتاج المال دون إنفاق الوقت، فهذا المال لن يكون مالاً صالحًا، أو لن يظلّ مالاً صالحًا. وسنرى شيئًا أعمق من ذلك، أن تتبّع الأشياء في عالم المعلومات يقتضي دائمًا تتبع الوقت.
إذا أصبح النقد رقميًّا، توجّب علينا أن نتفق على تعريف للوقت، وهنا تكمن المشكلة كلها. قد تظن أن مسألة تحديد الوقت سهلة ليس فيها إلا أن تنظر إلى أي ساعة قريبة منك، وهذا صحيح في المسائل اليومية. لكن عندما نتحدث عن مزامنة حالة شبكة عالمية موزعة ومتعادية الأطراف، يصبح الوقت مسألة معضلة. كيف يمكن أن تعرف الوقت إذا لم يمكنك أن تثق بالساعات؟ كيف يمكنك أن تنشئ مفهومًا موحداً للوقت في نظام يتسع ليشمل المجرة كلها؟ كيف تقيس الوقت في عالم حرٍ من الزمن؟ وما هو الوقت أصلًا؟
حتى نجيب عن هذه الأسئلة، سننظر نظرة أقرب إلى مفهوم الوقت نفسه، وسنرى كيف يخلق البيتكوين وقتًا خاصًّا به: وقت الكتلة – المعروف بـ “ارتفاع الكتلة”. سنستكشف أسباب ارتباط مسألة تتبع الوقت بمسألة إدارة السجلات، وأسباب انعدام الوقت المطلق في أي نظام لامركزي، وكيف يستعمل البيتكوين السببية وتعذّر التنبؤ ليبني مفهومه الخاص عن الآن.
لقد لعبت أجهزة ضبط الوقت دور ثوري عبر الحضارات مرة بعد مرة. كما أشار لويس ممفورد عام 1934: «الساعة هي الآلة المفتاحية في العصر الصناعي الجديد، وليس المحرك البخاري». اليوم، مرة أخرى، يحوّل جهاز ضبط الوقت حضارتنا: إن الآلة المفتاحية لعصر المعلومات الجديدة هي ساعة، وليست حاسوبًا. هذه الساعة هي البيتكوين.
تتبع الأشياء
فليتعلم الطفل كيف يعد الأشياء، حتى يفهم فكرة العدد. نعتبر الأشياء المختلفة عند العد متشابهة، وقد تكون أشياءً مفردة أو مجموعات.
– ديفيد يوجين سميث، تعليم الرياضيات الابتدائية (1900)
بعبارة عامة جدًّا هنا، عندنا طريقتان لتتبع الأشياء: القطع المادّية والسجلات. إما أن تستعمل مصنوعات مادية مباشرة (كأن تعطي أحدًا صدف البحر أو عملة معدنية أو شيئًا مادّيًّا آخر)، وإما أن تنسخ حالة العالم بكتابة ما جرى على قطعة ورق.
تخيل أنك راعٍ تريد أن تتأكّد من أن جميع قطيعك عاد إلى الحظيرة. إما أن تضع طوقًا على رقبة كل خروف، ثم تزيله عنها وتعلّقه عندما يعود، وتعرف إذا امتلأت جميع شمّاعاتك أن جميع القطيع عاد سالمًا. وإما أن تعد الخراف وتحتفظ بسجل ورقي. لكن عندها لا بد من أن تنشئ سجل جديدة عند كل عد، ولا بد أن تتجنب عد خروف واحد مرتين (أو نسيان عده أصلًا).
النقد في جوهره أداة لتتبع الدين: من يدين لمن، وبأي شيء يدين له. وبالعموم كل نقد استخدمناه يقع في إحدى هاتين الفئتين: المصنوعات المادية، والقوائم المعلوماتية. أو، بعبارة أسهل: القطع والسجلّات.
من المهم أن ندرك الفرق الجوهري بين هاتين الفئتين، لذا اسمح لي أن أشير إليه صراحةً: الطريقة الأولى –القطعة المادية– تمثّل حالة الواقع تمثيلًا مباشرًا. أما الطريقة الثانية –السجل– فتعكس تمثيلًا غير مباشر للواقع. لكل من الفئتين محاسن ومساوئ. فعلى سبيل المثال: القطع مادية وموزعة؛ أما السجلات فمعلوماتية ومركزية. القطع في جوهرها لا تقوم على الثقة؛ أما السجلات فبالعكس.
في العالم الرقمي –مهما حاول شيوخ التسويق أن يقنعوك بالعكس– لا يمكننا أن نستعمل إلا السجلات. هذا العالم عالم معلوماتي، وليس مادّيًّا. حتى لو سميت نوعًا معيّنًا من المعلومات «عملة» فهو ليس في حقيقته إلا قطعة طيّعة من المعلومات، مسجلة على قرص صلب أو وسيلة أخرى تستطيع حفظ المعلومات، وهو ما يجعلها عمليًّا سجلًّا معلوماتيًّا.
إن طبيعة المعلومات الرقمية المشابهة للسجل هي أصل مشكلة الإنفاق المزدوج. لا تستطيع المعلومات تمثيل حالة العالم مباشرة. بل وإن حركة المعلومات تقتضي النسخ. إذا كانت المعلومات موجودة في مكان ما، وأردت «نقلها» فلا بد أن تنسخها أولًا إلى مكان آخر ثم تمسحها من الأصل. هذه المشكلة غير موجودة في العالم المادي. في العالم المادي، يمكنك أن تنقل الأشياء فعليًّا من أ إلى ب. هذه الميزة ليست موجودة في عالم المعلومات. إذا أردت أن «تنقل» معلومة من أ إلى ب، فلا بد أن تنسخها من أ إلى ب. ليس أمامك طريقة أخرى.
لك أن تفكر في الأمر من ناحية أن القطع فريدة. القطع المادية هي تركيبات فريدة من الذرات لا يسهل استنساخها. أما المعلومات فليست فريدة. إذا كنت تستطيع قراءة المعلومات، فأنت تستطيع نسخها. يلزم عن هذا الأمر عمليًّا، أن القطع المادية فريدة، أما القطع الرقمية فغير فريدة. بل يمكن أن أقول إن كلمة «قطع رقمية» تسمية خاطئة. قد تمثل هذه القطع معلومات سرية، لكنها لن تمثل معلومات فريدة أو مفردة أو عصيّة على النسخ.
هذا الفرق في الأوصاف يظهر لنا استحالة «نقل» المعلومات. لا يمكنك أن تنقل شيء رقمي كما تنقل شيء مادي، لأنك لن تستطيع التأكد من أن المالك الأصلي حذف المعلومات من جهته. الأشياء الرقمية، ككل المعلومات، لا يمكنها إلا أن تنتشر، كالأفكار.
… إذا كان معك تفاحة ومعي تفاحة، وتبادلنا – سيصبح مع كل واحد منا تفاحة. لكن، إذا كان عندك فكرة وعندي فكرة، وتبادلنا – سيصبح عند كل واحد منا فكرتان.
– تشارلز فرانكلن برانان (1992)
العملات المادية –أي الأصول المادية ملك حاملها، أو «الكاش» أو النقد– خالية من هذه المعضلة. في العالم المادي، إذا أعطيتني عملة معدنية، لم تعد معك. لا يمكنك أن تسنتسخ عملتك سحريًّا، لن تستطيع أن تعطيني إياها إلا إذا أعطيتنيها بيدي. قوانين المادة تمنع الإنفاق المزدوج.
ومع أن الإنفاق المزدوج موجود في العالم غير الرقمي، فإنه يحتاج إلى خداع متقَن ومشترين سُذّج. خلافًا للعالم الرقمي. على سبيل المثال “جورج باركر” والذي باع جسر بروكلين ومعالم اخرى عدة مرات لعدة مشترين.
في العالم الرقمي نتعامل دائمًا بالمعلومات، لذلك فالإنفاق المزدوج مشكلة جوهرية. كما يعلم كل من نسخَ من قبل ملفًّا أو استعمل النسخ واللصق، المعلومات شيء يمكن نسخه تمامًا، وهي غير مقيدة بالوسيط الذي يحتويها. إذا كان عندك صورة رقمية مثلًا، يمكنك أن تنسخها مليون مرة، وتخزن بعض النسخ في ذاكرة USB، وترسلها إلى آلاف الناس. هذه النسخ التامّة ممكنة لأن المعلومات تتيح طريقة لتصحيح الأخطاء بلا عيوب، وهي ما يمنع تدهور الجودة في النسخ. وفوق كل هذا، تكلفة النسخ منعدمة تقريبًا وما من طريقة لمعرفة النسخة الأصلية من بين النسخ.
مرة أخرى: في المعلومات: ليس أمامك إلا النسخ. ما من طريقة لنقل المعلومات الرقمية من أ إلى ب. المعلومات دائمًا تُنسَخ من أ إلى ب، وإذا كانت عملية النسخ ناجحة، تُحذَف النسخة الأصلية عند أ. لهذا تعد مشكلة الإنفاق المزدوج صعبة جدًّا. في غياب سلطة مركزية، ما من طريقة لنقل أي شيء من أ إلى ب دون الثقة بهذه السلطة. ستحتاج دائمًا إلى الثقة بأن النسخة الأصلية حُذفت. من الآثار الجانبية لهذ الأمر، أنه عند الحديث عن المعلومات الرقمية، فمن المستحيل معرفة عدد النسخ الموجودة أو مكان النسخ الموجودة.
من أجل هذا، فإن استعمال «القطع» الرقمية نقدًا لا ينفع ولن ينفع. تشتق القطع موثوقيتها من صعوبة إعادة إنتاجها بسبب بنائها المادي الفريد. تختفي هذه الميزة في العالم الرقمي. في العالم الرقمي، لا يمكن أن تثق بالقطع. بسبب طبيعة الخصائص الجوهرية في المعلومات، الصيغة الوحيدة الممكنة للنقد الرقمي هي السجلّ، لا المصنوعات المادية–وهنا تظهر مشكلة الوقت.
القطع أبدية، أما السجلات فوقتية
لأن (الأشياء) التي تُرى وقتية، وأما التي لا تُرى فأبدية.
– بولس الطرسوسي، الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس 4:18
عند الحديث عن القطع، لا يهم وقت المعاملة. إما أن المسكوكات في جيبك، وإما أنها ليست في جيبك؛ إما أن تستطيع إنفاقها، وإما ألا تستطيع. إن مجرد الامتلاك هو الشرط الوحيد للإنفاق. قوانين المادة تتولى الباقي. بهذا المعنى، القطع المادية خالية من الثقة ومن الوقت (أبدية).
عند الحديث عن السجلات، يصبح الامتلاك المادي هامشيًّا. يجب على القائم على السجل أن يتأكد أن كل شيء مرتب. ما كانت تفرضه قوانين المادة –من أنك لا تستطيع أن تنفق مالًا ليس معك ولا أن تنفق مالًا أنفقته من قبل– أصبحت تفرضه هنا قوانين الإنسان. هذه القوانين هي التي تحكم القيام على السجل والعمل فيه، أما قوانين المادة فلا تتدخل.
هذا الانتقال من قوانين المادة إلى القوانين البشرية هو صلب الموضوع. القوانين البشرية قابلة للتحريف والخرق، خلافًا لقوانين المادة. فعلى سبيل المثال، ليس لك ببساطة أن «تختلق» مسكوكة ذهبية مادية. لا بد أن تستخرجها من الأرض. لكن يمكنك أن تختلق مسكوكة ذهبية على الورقة. لتفعل هذا، كل ما عليك هو إضافة سطر إلى السجل تمنح فيه نفسك مسكوكتين. أو، في حالة المصارف المركزية، أضف بضع تريليونات ببضع نقرات على حاسوبك. (يسمي أصحاب أسواق المال هذا الأمر «إعادة إقراض»، أو «مصرفية احتياطية جزئية» أو «تيسيرًا كميًّا»، لكن لا تخدعك هذه الكلمات، فكلها ترجع إلى معنًى واحد: اختلاق النقد).
للحفاظ على السجلات والذين يقومون عليها لا بد من وجود رقابة نزيهة نظامية مستقلة. إن القدرة على حمل مسؤولية كل سطر في السجل ليست رفاهية. لا بد أن يستطيع أهل الرقابة النظر في السجلات –والعودة بها في الزمان– حتى يحافظوا على نزاهتها وصحة عملها. من دون وجود ختوم زمنية موثوقة، لا سبيل إلى إثبات الاتساق الداخلي لأي سجل. لا بد من وجود آلية لإنشاء ترتيب لا لَبس فيه.
من دون معنًى مطلق للوقت، لا يمكن أن يكون للمعاملات ترتيب محدد. وإذا لم يكن للمعاملات ترتيب محدد، لا يمكن اتباع قوانين السجل. كيف يمكن أن تعرف مقدار النقد الموجود؟ كيف يمكن أن تعرف أن المعاملات في أماكنها؟
يؤكد الفرق بين القطع والسجلات على ضرورة تتبع الوقت. في العالم المادي، المسكوكات مصنوعات أبدية يمكن تبادلها دون إشراف. في العالم الرقمي، سك العملات يحتاج إلى تأريخ.
سك العملات المركزي
الوقت: الكاتب العظيم أو الماحي العظيم.
– يحيى اللبابيدي (1973)
أشهر طرق حل مشكلة الإنفاق المزدوج –مشكلة التحقق من أن النقل الرقمي لا يحدث إلا مرة واحدة– هو انشاء قائمة مركزية من المعاملات. إذا أقمتَ قائمة مركزية من المعاملات، أصبح عندك سجل مركزي تستطيع أن تكون فيه مصدر الحقيقة الأوحد. حل مشكلة الإنفاق المزدوج ليس إلا قراءة القائمة والتحقق من أن المجاميع صحيحة. هكذا تحل ‘بايبال‘ و‘فينمو‘ و‘علي باي‘ وكل بنوك العالم –ومنها البنوك المركزية– مشكلة الإنفاق المزدوج: بالسلطة المركزية.
«المشكلة طبعًا هي أن المدفوع إليه لا يستطيع التحقق من أن واحدًا من الملاك لم ينفق ما دُفعَ إليه مرة أخرى. من الحلول الشائعة إقامة سلطة مركزية موثوقة، أو مَسَكّ، يتحقق من خلو كل معاملة من الإنفاق المزدوج. […] المشكلة في هذا الحل هي أن مصير النظام النقدي كله يصبح معتمدًا على الشركة التي تقوم على المسك، إذ يتوجب على كل معاملة أن تمر من خلاله، كالبنك».
– ساتوشي ناكاموتو (2009)
من الحري أن نشير إلى أن ساتوشي لم يستطع أن يجعل المعلومات عصية على النسخ. كل جزء من أجزاء البيتكوين –كوده وسجله ومفتاحك الخاص– يمكن نسخه. كله يمكن نسخه وتغييره. لكن ساتوشي استطاع أن يبني نظامًا يجعل النُّسَخ الخارقة للقوانين عديمة النفع. شبكة البيتكوين ترقص رقصًا دقيقًا ومعقدًا لتتحقق من النسخ الصالحة والنسخ غير الصالحة. هذه الرقصة هي التي تنشئ الندرة في العالم الرقمي. وكما في كل رقصة، لا بد من عصا قياس زمنية لإدارة الوتيرة.
حتى السجل المركزي لا يستطيع حل مشكلة الإنفاق المزدوج إلا إذا امتلك طريقة لتتبع الوقت. ستحتاج دائمًا إلى معرفة الدافع والمدفوع له ومقدار الدفع، والأهم من كل ذلك: متى تم الدفع. في عالم المعلومات، لا يمكن سك العملات دون سك التواريخ.
لا بد أن نؤكد على أن استحالة ربط الأحداث بنقاط زمنية في الأنظمة الموزعة كانت هي المشكلة التي منعت إقامة سجل لامركزي إلى أن ابتكر ساتوشي ناكاموتو حلًّا.
– غريغوري تروبتسكوي (2018)
وقت لامركزي
الوقت يجعل كل شيء عابرًا.
– إسخيلوس (525 – 456 ق.م)
بين الوقت والترتيب علاقة وثيقة جدًّا. كما أشار لزلي لامبورت في ورقته الصادرة عام 1978 بعنوان الوقت والساعات وترتيب الأحداث في نظام موزع: «إن مفهوم الوقت تأسيسي في طريقة تفكيرنا. إنه مفهوم مشتق من مفهوم الترتيب الذي تحدث به الأحداث». في غياب نقطة تنسيق مركزية، تتساقط مفاهيم «قبل» و«بعد» و«في الوقت نفسه». بعبارة لامبورت: «إن مفهوم ‹الحدوث قبل› يعرّف ترتيبًا جزئيًّا ثابتًا للأحداث في نظام موزع متعدد العمليات».
بعبارة أخرى: من الذي يجب أن يقوم على الوقت إذا لم يكن مسموحًا أن يكون أحد قائمًا عليه؟ كيف يمكنك أن تملك ساعة موثوقة إذا لم يكن عندك إطار مرجعي مركزي؟
قد تعتقد أن حل هذه المشكلة سهل إذ يمكن لكل إنسان أن يستعمل ساعته. لكن هذا لا ينفع إلا إذا كانت جميع الساعات دقيقة، وإذا كان الجميع صادقًا، وهو الأهم. في نظام متعادي الأطراف، الاعتماد على الساعات المفردة مصيبة. وبسبب النسبية، لن يعمل الأمر بإتساق عبر المسافات.
على سبيل التجربة الفكرية، تخيل كيف يمكن أن تغش النظام إذا كان كل واحد قائمًا على ضبط الوقت بنفسه. قد تتظاهر بأن المعاملة التي ترسلها الآن هي من البارحة –لكنها تأخرت لسبب ما– فتقضي اليوم ومعك المال الذي من المفترض أنك انفقته. بسبب التواصل غير المتزامن الذي تستعمله كل الأنظمة اللامركزية، هذا السيناريو ليس مجرد تجربة فكرية نظرية. الرسائل تتأخر فعلًا، والأختام الزمنية غير دقيقة، وبسبب الآثار النسبية والحد الطبيعي الأقصى للسرعة في كوننا، ليس من السهل مطلقًا معرفة ترتيب الأشياء في غياب سلطة مركزية أو مراقب.
«من بالباب؟ دق دق».
– نكتة غير متزامنة
لفهم استحالة المشكلة فهمًا أفضل، فلنلق نظرة على مثال واقعي. تخيل أنك أنت وشريكك في العمل تستطيعان الوصول إلى حساب الشركة في البنك. تجرون الصفقات في كل دول العالم، لذا فحسابكما البنكي في سويسرا، وأنت في نيويورك، وشريكك في سيدني. عندك اليوم هو الثالث من يناير، وأنت تستمتع بليلة أحد جميلة في فندقك. أما شريكك، فقد حل عنده صباح الاثنين، فقرر أن يشتري الفطور من بطاقة الائتمان المرتبطة بحسابكما المشترك. التكلفة $27. الرصيد المتاح $615. الوقت المحلي 8:21 صباحًا.
في الوقت نفسه، توشك أنت على دفع أجرة الفندق ببطاقة أخرى مرتبطة بالحساب نفسه. التكلفة $599. الرصيد المتاح $615. الوقت المحلي 5:21 مساءً.
فلنفترض أنكما –في اللحظة نفسها تمامًا– مررتما البطاقة على الجهاز. ما الذي يحدث؟ (أعزائي الفيزيائيين، اعذروا استخدامي لعبارة «في اللحظة نفسها» – سنتجاهل الآثار النسبية وأنه ما من وقت مطلق في الكون الآن. سنتجاهل أيضًا أن مفهوم الأحداث المتزامنة غير موجود حقًّا. البيتكوين معقد بما يكفي كما هو!)
الراجح أن السجل المركزي في مصرفك سيتلقى معاملة قبل الأخرى، لذا فسيحالف الحظ واحدًا منكما، ولن يحالف الآخر. إذا حدث أن وصلت المعاملتان في النبضة نفسها –فلنقل في جزء الثانية نفسه– لا بد حينها أن يقرر البنك أيكما أولى بإنفاق المال.
فإذا لم يكن هناك بنك؟ من يقرر صاحب التمريرة الأولى على قارئ البطاقات؟ ماذا إذا لم تكونا اثنين وحيدين، بل كان التنسيق بين مئات وآلاف من الناس؟ ماذا إذا لم تثقا بهؤلاء الناس؟ ماذا إذا كان بعضهم يحاول أن يغش، بأن يغير ساعته مثلًا فيظهر كأنه أنفق المال قبل دقيقتين؟
«لا بد من وجود أداة زمنية من أجل تأسيس ترتيب نظامي للأحداث وفرض تاريخ فريد في غياب أي منسق مركزي».
–جياكوكو زوكو، اكتشاف البيتكوين (2019)
هذه المشكلة هي التي اضطرت كل المحاولات السابقة لإنتاج نقد رقمي أن تكون ذات سجل مركزي. عليك دائمًا أن تثق بأحد يحدد هو ترتيب الأحداث. كان لا بد من طرف مركزي يتتبع الوقت.
يحل البيتكوين هذه المشكلة بإعادة ابتكار الوقت نفسه. يرفض البيتكوين الثواني، ويقبل الكُتَل.
تتبّع الوقت، كتلة كتلة
عظمتك أيها الزمن أنك تخرس الملوك المتنازعين،
وتفضح الزيف وتلقي الضوء على الحقيقة،
وأنك تمهر بخاتمك الأشياء القديمة،
وأنك توقظ الصباح وتعسعس الليل،
وتظلم الظالم حتى يرتجع
–وليم شكسبير، اغتصاب لوكريس (ترجمة د. عمار شرقية)
كل الساعات تعتمد على عمليات دورية، نسميها «النبضات». نبض ساعة جدّك النوّاسيّة لا يختلف في جوهره عن الاهتزاز الجزيئي–الذري في ساعات كوارتز وكيسيوم الحديثة. شيء ينوس –أو يتأرجح– وكل ما نفعله هو عدّ النوسات أو التأرجحات حتى تبلغ دقيقة أو ثانية.
في ساعة البندول (النواسية أو الرقاصية) هذه النوسات طويلة وسهلة المشاهدة. أما الساعات الأصغر والأكثر تخصصًا، فتستعمل معدات خاصة. إن تواتر الساعة –عدد نبضاتها في الوحدة الزمنية– يختلف حسب استخدامها.
تستعمل معظم الساعات تواترًا ثابتًا. في النهاية، يجب أن نعرف الوقت تمامًا. لكن بعض الساعات تستعمل تواترًا متغيّرًا. رقّاص الإيقاع مثلًا، يستعمل تواترًا متغيّرًا تستطيع ضبطه قبل أن تشغله. يحافظ الرقاص على وتيرته ثابتة بعد ضبطها، أما وقت البيتكوين فيختلف من نبضة إلى نبضة لأن آليته الداخلية احتمالية. لكن الغرض من الآلتين واحد: أن تستمر الموسيقى، حتى يستمر الرقص.
الساعة | تواتر نبضها |
ساعة الجد (النواسية) | ~0.5 هرتز |
رقاص الإيقاع | ~0.67 إلى ~4.67 هرتز |
ساعة كوارتز | 32768 هرتز |
ساعة كيسيوم ذات 133 ذرة | 9,192,631,770 هرتز |
البيتكوين | كتلة واحدة (0.00000192901 هرتز* إلى ∞ هرتز**) |
** يمكن أن تحوي الأختام الزمنية بين الكتل أرقامًا سالبة
إن حقيقة كون البيتكوين ساعةً مختفية أمام أنظار الجميع. يشير ساتوشي إلى أن شبكة البيتكوين تعمل بكلّيتها كما تعمل الساعة، أو بكلماته: نظام ختم زمني موزع.
في هذه الورقة، نقترح حلًّا لمشكلة الإنفاق المزدوج باستعمال خادم ختم زمني موزع يولد براهين حوسبية على الترتيب التأريخي للمعاملات.
– ساتوشي ناكاموتو (2009)
يظهر كون الختم الزمني هو المشكلة الجذرية التي يحلها البيتكوين في المراجع المذكورة في آخر الورقة البيضاء. من أصل 8 مراجع، 3 عن الختم الزمني:
- كيف تختم مستندًا رقميًّا زمانيًّا، ‘ستوارت هابر‘ و‘دبليو سكوت ستورنيتا‘ (1991)
- تحسين فعالية وموثوقية الختم الزمني الرقمي، ‘ديف باير‘ و‘ستوارت هابر‘ و‘دبليو سكوت ستورنيتا‘ (1992)
- تصميم خدمة ختم زمني بأقل متطلبات ثقة، ‘خافيير سيريت أفيلا‘، و‘جان جام كيسكاتر‘، و‘هنري ماسياس‘ (مايو 1999)
كما أشار ‘هابر‘ و‘ستورنيتا‘ في 1991، الختم الزمني الرقمي هو استعمال إجراءات عملية حاسوبية تجعل من المستحيل على مستخدم –أو منازِع– أن يختم مستنده في وقت سابق أو لاحق. خلافًا للمستندات المادية، يسهل اللعب بالمستندات الرقمية، ويمكن أن يجري التغيير دون أن يترك أي علامة خلفه في الوسيط المادي (القرص الصلب مثلًا). في العالم الرقمي، يمكن للنسخ الزائفة والمحرّفة أن تكون تامّة لا عيب فيها.
إن الطبيعة المرنة للمعلومات تجعل الختم الزمني للمستندات الرقمية عملية دقيقة ومعقدة. لن تنفع الحلول الساذجة. خذ مثلًا مستندًا نصيًّا، لا يمكنك أن تضيف في نهايته تاريخ إنشائه، لأن أي أحد يستطيع أن يغير هذا التاريخ في المستقبل، حتى أنت. بل يمكنك أصلًا أن تضع أي تاريخ في المقام الأول.
الوقت سلسلة سببية
من وجهة نظر متطرفة، يمكن أن نرى العالم مجرد ارتباطات، لا شيء آخر.
– خياطة الشبكة، ‘تيم بيرنرز لي‘ (1999)
إن اختلاق التواريخ مشكلة عامة، حتى في العالم غير الرقمي. ما يُسمّى في عالم الجريمة والخطف «التوثيق بالصحيفة» هو حل لمشكلة الأختام الزمنية الاعتباطية.
ينفع هذا الحل لأن الصحيفة صعبة التزوير وسهلة التحقق. صعبة التزوير لأن صفحة غلاف اليوم تحوي أحداث البارحة، وهي أحداث لم يكن يمكن للخاطف أن يتوقعها إذا كانت الصورة قبل عدة أسابيع. بواسطة هذه الأحداث، تثبت الصورة أن المختطَف لم يزل حيًّا في اليوم الذي صدرت فيه الصحيفة.
تبيّن هذه الطريقة أحد المفاهيم الرئيسة في الوقت: السببية. إن اتجاه الوقت يصف العلاقة السببية بين الأحداث، فإذا ألغيتَ السببية، ألغيتَ الوقت. السببية هي السبب الذي يجعل خوارزميات التجزئة التشفيرية (الهاش) أمرًا أساسيًّا عند ختم المستندات زمنيًّا في العالم الرقمي: هذه الخوارزميات تنشئ علاقة سببية. في ظل استحالة إنشاء هاش مشفر دون وجود المستند نفسه في المقام الأول، تنشأ علاقة سببية بين المستند والهاش: البيانات في المستند وجدت أولًا، ثم وُلّد الهاش. بعبارة أخرى: لولا تعذّر العكس الحاسوبي في هذه العملية ذات الاتجاه الواحد، لما كان عندنا سببية في العالم الرقمي.
فإذا ثبتنا حجر الأساس السببي هذا، استطعنا ابتكار عدة نماذج لإنشاء سلسلة من الأحداث، تربط سببيًّا بين أ وب وج، وهكذا. بهذا المعنى، ينقلنا الختم الزمني الرقمي الآمن من عالم لا وقت فيه إلى عالم التاريخ الرقمي.
«تثبت السببية الأحداث في زمانها. إذا كان حدث ما مقتضًى بأحداث سابقة، ومقتضيًا لأحداث لاحقة، فهذا الحدث مثبَّت بأمان في مكانه في التاريخ».
– باير، هابر، ستورنيتا (1992)
لا داعي لذكر أن السببية ذات أهمية كبرى عند الحديث عن الحسابات الاقتصادية. ولأن السجل مجرد تجسيد للحسابات الاقتصادية لعدة مشاركين متعاونين، فالسببية أمرًا لا بد منه في كل سجل.
«نحتاج إلى نظام يستطيع فيه المشاركون أن يتفقوا على تاريخ واحد […]. الحل الذي نقترحه يبدأ بخادم ختم زمني».
– ساتوشي ناكاموتو (2009)
من المذهل أن كل قطع اللغز التي يتألف منها البيتكوين كانت موجودة من قبل. منذ 1991، أنشأ ‘هابر‘ و‘ستورنيتا‘ نموذجين «يصعّبان أو يحيلان إنتاج ختوم زمنية زائفة». الأول يعتمد على طرف ثالث موثوق؛ أما الثاني، وهو نموذج «الثقة الموزعة» الأدق، فلا يعتمد على طرف ثالث. حدد المؤلفان المشكلات الجوهرية في الثقة بسلسلة سببية من الأحداث، وحددا ما تتطلبه إعادة كتابة التاريخ. بعبارتهما، «الخدعة الوحيدة الممكنة هي تحضير سلسلة زائفة من الختوم الزمنية، طويلة بما يكفي لإنهاك أكبر المشككين المتوَقعين». في شبكة البيتكوين اليوم ثغر مشابه، هو هجوم 51% (المزيد عنه في فصل لاحق).
بعد عام واحد، بنى باير وهابر وستورنيتا على عملهم السابق واقترحوا استعمال الأشجار بدلًا من القوائم المترابطة لربط الأحداث. ليست أشجار ميركل التي نعرفها اليوم إلا بنية معطيات فعالة لإنشاء هاش واحد من عدة هاشات بطريقة حتمية. في الختم الزمني، يعني هذا أنك تستطيع جمع عدة أحداث في «نبضة» واحدة. في الورقة نفسها، اقترح المؤلفون تحسين نموذج الثقة الموزعة المقترح عام 1991 بإنشاء «بطولة عالم» متكررة، تحدد «فائزًا» واحدًا ينشر الهاش الناتج في مكان عام، كصحيفة مثلًا. مألوف، أليس كذلك؟
كما سنرى، سيتبين أن الصحف طريقة ممتازة للتفكير في المكوّن الثاني للوقت: تعذّر التنبؤ.
السببية وتعذّر التنبؤ
«الوقت ليس حقيقة، بل مفهوم، أو مقياس…»
– أنطيفون السفسطائي، عن الحقيقة (القرن الثالث بعد الميلاد)
نعم، السببية حجر أساس، لكنها ليست كافية. نحتاج إلى تعذّر التنبؤ حتى يتدفق الوقت. في العالم المادي، نلاحظ العمليات الطبيعية ونصف بها تدفق الوقت. نلاحظ زيادة عامة في الاختلاط (الإنتروبي) ونسميها اتجاه الزمن. ومع أن قوانين الطبيعة تبدو في معظم الأحيان غافلة عن هذا الاتجاه، فإن بعض الأشياء لا يمكن أن يُتراجع عنها. لا يمكنك أن تعيد بيضة مخفوقة إلى حالها الأصلي.
كذلك فإن التوابع التي تزيد الاختلاط مطلوبة لتأسيس اتجاه للزمن في العالم الرقمي. كما أنه يستحيل عمليًّا استعادة بيضة مخفوقة، يستحيل عمليًّا استعادة هاش SHA256 أو توقيع مشفر.
لولا هذه الزيادة في الاختلاط، لكان في إمكاننا أن نتقدم ونتأخر في الزمان كما نشاء. سلسلة أعداد فيبوناتشي مثلًا، سببية لكن قابلة للتنبؤ. كل عدد في السلسلة ناتج عن العددين السابقين له. بهذا المعنى، السلسلة سببية. لكنها لن تنفعنا في معرفة الوقت لأنه قابلة للتنبؤ. كما أن الخاطف لا يستطيع أن يقف أمام تقويم يظهر اليوم الحالي، لا نستطيع استخدام العمليات التي يمكن التنبؤ بها برهانًا على الوقت. علينا دائمًا أن نعتمد على شيء لا يمكن أن نتوقعه مقدَّمًا، كغلاف صحيفة اليوم.
يعتمد البيتكوين على مصدرين لتعذّر التنبؤ: المعاملات وبرهان العمل. كما أن أحدًا لا يستطيع أن يعرف مظهر صحيفة الغد، لا يستطيع أحد أن يعرف شكل كتلة البيتكوين التالية. لا يمكنك أن تتوقع المعاملات التي ستحتوى فيها لأنك لا تستطيع أن تتوقع المعاملات التي ستبَثّ في المستقبل، والأهم من ذلك، لا يمكنك أن تتوقع من الذي سيجد حل أحجية برهان العمل، وماذا سيكون هذا الحل.
لكن الفرق بين برهان العمل وصحيفة الخاطف، أن برهان العمل متصل مباشرة بالحدث. برهان العمل ليس توثيقًا للحدث، بل هو الحدث نفسه. إن الاتجاه الاحتمالي لبرهان العمل هو الذي يلغي الثقة من المعادلة. الطريقة الوحيدة لإيجاد برهان عمل صالح هي توقع كثير من التوقعات، وكل توقع يأخذ بعض الوقت. المجموع الاحتمالي لهذه التوقعات هو الذي يبني سلسلة الوقت التي هي البيتكوين.
باستعمال سببية سلاسل الهاشات وتعذر التنبؤ ببرهان العمل، تقدم شبكة البيتكوين آلية لتأسيس تاريخ لا نزاع فيه للأحداث المشهودة. لولا السببية، لما أمكن التمييز بين ما سبق وما تلا. لولا تعذر التنبؤ، لما كان للسببية معنى.
ما فهمه كل خاطف بالبداهة، عبّر عنه ‘باير‘ و‘هابر وستورنيتا‘ بصراحة في 1992: «لإثبات أن مستندًا ما نشأ بعد لحظة معينة في الزمان، لا بد من الإخبار عن أحداث لم يكن يمكن أن يتوقع من قبل أنها حدثت».
إن الجمع بين السببية وتعذر التنبؤ هو الذي يتيح إنشاء لحظة «الآن» في العالم الرقمي الذي لم يكن فيه زمن بالأصل. كما كما يقول ‘باير‘ و‘هابر‘ و‘ستورنيتا‘ في ورقتهم المنشورة عام 1991: «إن تسلسل طلب العملاء للأختام الزمنية والهاشات التي يقدمونها لا يمكن أن يُتوقع مسبقًا. لذا إذا ضمّنّا بتّات من السلسلة السابقة من طلبات العملاء في الشهادة المتوقعة، يمكننا عندها أن نعرف أن الختم الزمني حدث بعد هذه الطلبات. […] لكن تضمين بتات من المستندات السابقة في الشهادة يمكن استعماله أيضًا لحل مشكلة منع الرجوع في الزمن، لأن شركة الختم الزمني لا يمكن أن تصدر شهادات لاحقة إلا إذا كان الطلب الحالي بين أيديها».
كل قطع الأحجية كانت موجودة. استطاع ساتوشي أن يجمع هذه القطع بطريقة تزيل «شركة الختم الزمني» من المعادلة.
برهان الوقت
«العلّة خفية، لكن النتيجة معلومة».
– أوفيد، التحولات، المجلد الرابع، ص287 (8 للميلاد)
فلنلخّص ما مضى: لكي نستعمل نقدًا في العالم الرقمي، لا بد من الاعتماد على السجلات. حتى تكون السجلات موثوقة، لا بد من امتلاكها لترتيب لا لبس فيه. لتأسيس هذا الترتيب، لا بد من الختم الزمني. لذا، إذا أردت أن تبتكر نقدًا لا ثقة فيه في العالم الرقمي، لا بد أن تزيل أي كيان ينشئ ويدير الختوم الزمنية وأن تزيل أي كيان مسلَّط على الوقت نفسه.
لم يستطع إيجاد الحل إلا العبقري ساتوشي ناكاموتو: «لتطبيق خادم ختم زمني موزع على أساس النظير للنظير، سنحتاج إلى نظام برهان عمل شبيه بنظام الهاش كاش الذي ابتكره ‘آدم باك‘».
نحتاج إلى استعمال نظام برهان عمل لأننا نريد شيئًا أصيلًا في العالم الرقمي. عندما تفهم أن العالم الرقمي معلوماتي في طبيعته، يتضح أمامك أن الحوسبة هي كل ما نملك. في عالم مصنوع من البيانات، كل ما لدينا هو تعديل البيانات وتغييرها.
يعمل برهان العمل في نظام من نظير إلى نظير لأنه خالٍ من الثقة، وهو خال من الثقة لأنه مستقل عن كل المدخلات الخارجية – كقراءات الساعات (أو الصحف). يعتمد برهان العمل على شيء واحد فقط: الحوسبة تتطلب عملًا، وفي عالمنا، العمل يتطلب طاقة ووقتًا.
جسر الأوقات
«أعلم أنها (خطة) تنفعني.
عندما نعبر الجسر –الجسر المشتعل–،
وتصبح ألهبته وراءنا،
سنكون طليعة الجبهة.
أنا وأنت، حبيبتي، ضد العالم.»
–كيت بوش، الجسر المشتعل (1985)
لولا برهان العمل، سنرجع دائمًا إلى مشكلة الوسيط (الأوراكل) لأن العالم المادي والعالم المعلوماتي منفصلان أبديًّا. الإشارات على قائمة خرافك ليست خرافًا، الخريطة ليست الأرض، وأي شيء مكتوب في صحيفة الأمس ليس بالضرورة هو الذي حدث في العالم الحقيقي. بالطريقة نفسها، إذا استعملت ساعة لكتابة ختم زمني فلا ضرورة أن يكون الوقت الذي ختمت به صحيحًا.
بعبارة أوضح، ما من طريقة نستطيع بها أن نثق أن البيانات تمثل الواقع، إلا إذا كان الواقع هنا متضمنًا في البيانات نفسها. إن الشيء الخارق في برهان عمل البيتكوين المتعدّل الصعوبة هو أنه ينشئ واقعه الخاص، ومكانه الخاص وزمانه الخاص.
يقدم برهان العمل ارتباطًا مباشرًا بين العالم الرقمي والعالم المادي. والأعمق من هذا، أن هذا الارتباط هو الارتباط الوحيد الذي يمكن أن نؤسسه بطريقة لا تعتمد على الثقة. كل شيء آخر يجب أن يعتمد على مدخلات خارجية.
تتعدل صعوبة تعدين كتلة البيتكوين الجديدة لتضمن استمرار سلامة الخيط الدقيق الذي يربط وقت البيتكوين بوقتنا. كالساعة، تتعدل صعوبة التعدين كل 2016 نبضة. هدف هذا التعديل هو إبقاء متوسط الوقت بين النبضات عشر دقائق. هذه الدقائق العشر هي التي تحافظ على ارتباط مستقر بين العالم المادي والعالم المعلوماتي. ومن ثم، فإن الإحساس بوقت الإنسان ضروري لتعديل نبضات ساعة البيتكوين. لن يعمل تعديل الصعوبة إذا كان على أساس الكتل وحده لأن النظام منفصل تمامًا في هذه الحالة عن عالمنا البشري، وكل هدف التعديل أصلًا هو منع البشر العباقرة من إيجاد الكتل بسرعة شديدة (أو ببطء شديد).
لقد بيّن آينشتاين أن الزمن ليس شيئًا ثابتًا. ليس في العالم وقت واحد جامع نستطيع أن نعتمد عليه جميعًا. الوقت نسبي، والتزامن غير موجود. هذه الفكرة وحدها تجعل كل الختوم الزمنية –لا سيما التي بين مسافات طويلة– ضعيفة الموثوقية في جوهرها، حتى من دون وجود فاعلين غير نزيهين في النظام. (لهذا تتعدل الختوم الزمنية لنظام تحديد المواقع العالمي دائمًا، بالمناسبة).
بالنسبة للبيتكوين، لا يهم كثيرًا أن ختومنا الزمنية نحن البشر غير دقيقة. لا يهم كثيرًا كذلك أننا لا نملك إطارًا مرجعيًّا مطلقًا أصلًا. ليس على مقاييسنا للوقت إلا أن تكون دقيقة بما يكفي لحساب متوسط موثوق كل 2016 كتلة. من أجل ضمان هذا، لا يُقبَل الختم الزمني للكتلة إلا إذا حقق معيارين:
- يجب أن يكون أكبر من وسيط الختوم الزمنية للكتل الإحدى عشر السابقة.
- يجب أن يكون أقل من مجموع الوقت المعدل في الشبكة وساعتين. (الوقت المعدل في الشبكة هو ببساطة وسيط كل الختوم الزمنية التي تعيدها كل الكتل المتصلة بك).
بعبارة أخرى، هدف تعديل الصعوبة هو الحفاظ على ثبات الوقت، لا الحفاظ على ثبات الأمان ولا الصعوبة ولا استهلاك الطاقة. هذا الابتكار عبقري لأن النقد الجيد لا بد أن يكون مكلفًا من حيث الزمن، لا من حيث الطاقة. ربط النقد بالطاقة وحدها لا يكفي لإنشاء ندرة مطلقة لأن كل تحسين في توليد الطاقة سينشئ مزيدًا من النقد في هذه الحالة. الوقت هو الشيء الوحيد الذي لن نستطيع اختلاق المزيد منه. إنه المورد النهائي، بعبارة جوليان سيمون. يجعل هذا الأمر البيتكوين النوع النهائي من النقد لأن إصداره مرتبط مباشرة بالمورد النهائي في عالمنا: الوقت.
تعديل الصعوبة ضروري لأن لولاه لأصبحت ساعة البيتكوين أسرع وأسرع كلما دخل مزيد من المعدنين إلى الشبكة وتحسنت فعالية أجهزة التعدين. هكذا نعود إلى مشكلة التنسيق التي ابتُكر البيتكوين لحلها أصلًا. إذا انخفض زمن الكتلة تحت عتبة معينة (50 مِلّي ثانية مثلًا) يصبح من المستحيل الاتفاق على حالة مشتركة، حتى نظريًّا. الضوء يستغرق 66 مِلّي ثانية حتى ينتقل من أحد جهتي الأرض إلى الأخرى. هكذا، حتى لو كانت حواسيبنا وشبكاتنا كاملة وممتازة، سنعود إلى النقطة الأولى: إذا ظهر حدثان، لن نستطيع معرفة الذي حدث قبل والذي حدث بعد. من دون التعديل الدوري لنبضات البيتكوين، سنواجه مشكلة حل مسألة التنسيق بسرعة أسرع من سرعة الضوء. الوقت هو أصل مشكلة قلة الاستقرار التشفيرية، المبينة في الفصل 1. التشفير ينفع بسبب اللا تماثل في الوقت: بناء جدار مشفر يستغرق وقتًا قصيرًا، وهدمه يستغرق وقتًا طويلًا، إلا إذا كان المفتاح معك.
لذا، بمعنًى من المعاني، برهان العمل –وتعديل الصعوبة الذي يأتي معه– يبطئ الوقت صناعيًّا، أو على الأقل من منظور شبكة البيتكوين. بعبارة أخرى: يفرض البيتكوين على نفسه وتيرة داخلية يتيح تواترها المنخفض عازلًا يتسع لبطء التواصل بين النظراء في الشبكة. كل 2016 كتلة، تتعدل ساعة البيتكوين الداخلية، حتى تظل كتلة واحدة تنتَج كل 10 دقائق بالمتوسط.
من منظور خارجي، البيتكوين يجمع فوضى الرسائل غير المتزامنة المبثوثة عالميًّا في عالم موازٍ، محكوم بقوانينه الخاصة ومعناه الخاص للزمان والمكان. المعاملات في حوض الذاكرة خالية من الوقت من وجهة نظر شبكة البيتكوين. لا تصبح المعاملة ذات وقت إلا إذا شملتها كتلة صالحة، هذا الوقت هو رقم الكتلة التي شملتها.
لا يمكنني أن أعبر عن أناقة وروعة هذا الحل. عندما تستطيع أن تنشئ تعريفك الخاص للزمان، تصبح معرفة ما كان قبل وما كان بعد أمرًا تافهًا، ويصبح الاتفاق على ما حدث، وترتيب ما حدث، ومن يدين لمن بكم، تافهًا كذلك.
يضمن تعديل الصعوبة أن نبضات رقّاص البيتكوين الداخلية ثابتة تقريبًا. تعديل الصعوبة هو قائد أوركسترا البيتكوين. هو الذي يحافظ على استمرار الموسيقا.
لكن لماذا يمكننا أن نعتمد على العمل أصلًا؟ للإجابة ثلاثة مكونات. يمكننا أن نعتمد عليه لأن الحوسبة تتطلب عملًا، والعمل يتطلب وقتًا، والعمل هنا –توقع أرقام عشوائية– لا يمكن أن يتم على نحو يتسم بالكفاءة.
وقت احتمالي
«الوقت يتشعّب دائمًا إلى مستقبلات لا تحصى».
– يورغ لويس بورغس، حديقة الطرق المتشعبة(1941)
إن إيجاد الرقم الخاص بكتلة بيتكوين هو لعبة تخمين. هو أشبه برمي نرد أو عملة، أو تدوير عجلة روليت. إن بحثك عن هذا الرقم هو في الحقيقة بحث عن رقم عشوائي كبير فلكيّ، بل أكبر من فلكي. لا يمكنك أن تتقدم نحو إيجاد حل. إما أن تصيب وإما ألا تصيب.
في كل مرة ترمي فيها عملة، يكون احتمال ظهور وجه من الوجهين 50%، ولو ظهر الوجه الآخر في المرات العشرين السابقة. كذلك في كل مرة تنتظر فيها كتلة بيتكوين، يكون احتمال إيجاد رقم الكتلة في هذه الثانية ~0.16%. لا يهم متى وُجدت الكتلة السابقة. وقت الانتظار التقريبي للكتلة التالية واحد دائمًا: ~10 دقائق.
إذن فإن كل نبضة من نبضات الساعة غير قابلة للتنبؤ. بالنسبة إلى ساعاتنا البشرية، تبدو هذه الساعة ارتجالية وغير دقيقة. لكن هذا لا يهم، كما يشير ‘غريغوري تروبتسكوي‘: «لا يهم أن هذه الساعة غير دقيقة. المهم أنها الساعة نفسها للجميع وأن حالة السلسلة يمكن ربطها بوضوح بنبضات هذه الساعة». قد تكون ساعة البيتكوين احتمالية، لكنها ليست وهمية.
«الوقت وهم.
وقت الغداء وهم مضاعف».
–دوغلاس آدمز
لكن اللحظة الحالية يمكن بسهولة أن تكون وهمًا في البيتكوين. لما كانت الشبكة خالية من السلطة المركزية، كان ظهور حالات غريبة أمرًا ممكنًا. وعلى رغم صغَر الاحتمال، فمن الممكن أن توجد كتلتان صالحتان في الوقت نفسه (مرة أخرى: أعتذر من أهل الفيزياء)، وهو ما سيجعل الساعة تنبض نبضتين مختلفتين في الوقت نفسه. ولكن لما كان الأرجح أن تكون هاتان الكتلتان مختلفتين في المحتوى، فسينتج عنهما تاريخان مختلفان، كلاهما صالح.
تعرَف هذه الحالة باسم انشعاب السلسلة، وهي عملية طبيعية في إجماع ناكاموتو. كما قد ينشعب سرب من الطيور إلى سربين ويعود بعد ذلك واحدًا، تعود عقد شبكة البيتكوين لتتفق على تاريخ مشترك بعد قليل من الوقت، بفضل الطبيعة الاحتمالية للتخمين.
ينص إجماع ناكاموتو ببساطة على أن التاريخ الصحيح هو المتضمن في أثقل سلسلة، أي في السلسلة ذات أكبر برهان عمل متضمن فيها. لذا، إذا امتلكنا تاريخين أ، وب، سيحاول بعض المعدنين البناء على أ، وسيحاول الآخرون البناء على ب. فإذا وجد أحد الفريقين كتلة صالحة، يعود الفريق الثاني تلقائيًّا ويقبل أنه كان على الجانب الخاطئ من التاريخ، ويحوّل عمله إلى السلسلة الأثقل، السلسلة التي تمثل ما حدث فعلًا، بالتعريف. في البيتكوين، التاريخ حقًّا يكتبه المنتصرون.
«يحتاج المستفيد إثباتًا أن أغلبية العقد في الشبكة متفقة في وقت كل معاملة على أن هذه المعاملة وصلت. […] عندما تتعدد النسخ المنفقة المزدوجة من المعاملة نفسها، لن يُوثق منها إلا واحدًا فقط. يجب أن ينتظر مستقبِل التحويل (المستفيد) ساعة أو قريبًا من الساعة قبل أن يعتقد بصلاح المعاملة. ستكون الشبكة قد حلّت أي مشكلة إنفاق مزدوج في هذه الفترة».
– ساتوشي ناكاموتو (2009)
في هذه العبارة البسيطة يكمن سر مشكلة التنسيق الموزع. هكذا حل ساتوشي مشكلة «الدفع المتزامن» التي واجهها شركاء العمل المذكورون أعلاه. حلها حلًّا واحدًا إلى الأبد، وتجنب كل آثار النظرية النسبية!
بسبب الطبيعة الاحتمالية لساعة البيتكوين، تبقى اللحظة الحالية –التي نسميها رأس السلسلة– غير يقينية. أما الماضي –الكتل المدفونة تحت رأس السلسلة– فهو أقرب وأقرب إلى اليقينية.
«كلما احتاج المرء إلى فهم أعمق، كان عليه أن يرجع في الزمن أكثر».
– غوردون كلارك، منظور مسيحي للبشر والأشياء، ص85 (1951)
نتيجة هذا، قد تعود ساعة البيتكوين في الزمن بين الحين والآخر، عند بعض النظراء، لمدة نبضة أو نبضتين. إذا خسر رأس سلسلتك –اللحظة الآنية– أمام رأس سلسلة منافسة، ستلتف ساعتك وتقفز إلى الأمام، وتمحو بضع نبضات كنت تظن أنها أصبحت من التاريخ. إذا كانت ساعتك احتمالية، فلا بد أن يكون فهمك للماضي احتماليًّا أيضًا.
الخلاصة
«لم يزل الوقت أحجية من أعظم أحاجي الفيزياء، أحجية تشككنا في تعريف الفيزياء نفسه».
– يورغ تشام ودانييل وايتسون، لييس لدينا فكرة: دليل إلى الكون المجهول، ص117–118 (2017)
إن تتبع الأشياء في العالم المعلوماتي يقتضي تتبع تسلسل الأحداث، وهو ما يقتضي تتبع الوقت. يتطلب تتبع الوقت الاتفاق على «الآن»، وهو اللحظة الزمنية التي تربط التاريخ الثابت بالمستقبل المجهول. في البيتكوين، هذا «الآن» هو رأس أثقل سلسلة برهان عمل.
في بناء الزمان حجران أساسيّان: الروابط السببية والأحداث التي لا يمكن التنبؤ بها. الروابط السببية ضرورية لتعريف الماضي، والأحداث غير القابلة للتنبؤ ضرورية لبناء المستقبل. إذا كانت سلسلة الأحداث قابلة للتنبؤ، سيكون القفز إلى الأمام ممكنًا. إذا كانت الخطوات المفردة في التسلسل غير مرتبطة سببيًّا، سيكون تغيير الماضي سهلًا جدًّا. بفضل المعنى الداخلي للوقت في البيتكوين، يصعب جدًّا الغش فيه. لا بد على من يريد الغش أن يعيد كتابة الماضي أو أن يتوقع المستقبل. تمنع سلسلة الوقت في البيتكوين كلا الأمرين.
إن النظر إلى البيتكوين من عدسة الوقت يوضح أن «سلسلة الكتل» –بنية البيانات التي تربط الأحداث المختلفة سببيًّا– ليست هي الابتكار الأساسي. هذه الفكرة ليست جديدة أصلًا، وهو ما يتضح عند دراسة أدبيات الختم الزمني في الماضي.
«سلسلة الكتل هي سلسلة من الكتل».
– بيتر تود
الفكرة الجديدة –التي اكتشفها ساتوشي– هي كيفية الاتفاق المستقل على تاريخ من الأحداث دون تنسيق مركزي. وجد ساتوشي طريقة لتطبيق نموذج ختم زمني لامركزي لا يتطلب شركة ختم زمني، ولا يتطلب صحيفة أو وسيلة مادية أخرى للإثبات، ويحافظ على نبضاته مستقرة تقريبًا، حتى وهو يعمل في بيئة تتسارع فيها نبضات ساعات معالجات الحواسيب.
يتطلب تتبع الوقت السببية، وتعذر التنبؤ، والتنسيق. في البيتكوين، ترجع السببية، إلى خوارزميات الاتجاه الواحد: التجزئة التشفيرية (الهاش) والتواقيع الرقمية التي في جوهر البروتوكول. يعود تعذر التنبؤ إلى أحجية برهان العمل وإلى التفاعل مع النظراء الآخرين: لا يمكنك أن تعرف مسبقًا ما الذي يفعله الآخرون، ولا يمكنك أن تعرف مسبقًا ماذا سيكون حل أحجية برهان العمل. يجعل تعديل الصعوبة التنسيق ممكنًا، إذ يربط وقت البيتكوين بوقتنا. لولا هذا الجسر بين العالم المادي والعالم المعلوماتي، لكان مستحيلًا أن نتفق على وقت واحد بالاعتماد على البيانات وحدها.
البيتكوين هو الوقت، بمعان كثيرة لا بمعنًى واحد. وحدات البيتكوين وقت مخزَّن لأنها نقد، وشبكة البيتكوين وقت لأنها ساعة لامركزية. نبضات هذه الساعة التي لا تتوقف هي أصل كل الخصائص السحرية في البيتكوين. لولا هذا النبض، لما استمر رقص البيتكوين الأنيق. لكن بفضل وجوده، أصبح شيء رائع حقًّا متاحًا لكل الناس على الأرض: مال سحري على الإنترنت.