مجتمع وثقافة

الطاعون الأكبر: وباء زبالة العملات

والخراب الحتمي من صك العملة المعاصرة

المقال الأصلي | الكاتب: Thibaud Maréchal | ترجمة: BTCTranslator | تاريخ الكتابة: اكتوبر 2020

لا يمثل البيتكوين الإمكانية الحقيقية الوحيدة لفصل المال عن الدولة فحسب، بل نقلة نوعية متقدمة جداً بالفعل وحتمية الحدوث

إنّ الكلمة الإنكليزية الدالّة على أجر صكّ العملات ’seigniorage‘، ترجمتها الحرفية: «السنيوريّة»، نسبة إلى السنيور أي السيّد، جاءت من الفرنسية القديمة، دالّةً على حقّ السيّد (السنيور) بصكّ العملات والتربّح الفاحش من إنتاج المال. وكان حقًّا موروثًا للأسياد والملوك استخراج أجرًا من السبائك التي تُجلب إلى المصكّ لصيغها او مبادلتها بقطع نقدية تُستخدَم في التجارة. وكان الناس يأتون بمعادنهم الثمينة كالذهب والفضّة، فيصكّها مصكّ المَلِك عملات، ليقبلها التجار في معاملاتهم. كانت هذه المزيّة مقصورة على النُّخَب المسلّحة ذات القوى التشريعية والتنفيذية. 

واليوم، لم يزل أجر الصكّ وسيلة شائعة للتربّح بين حكومات العالم من دون فرض ضرائب تقليدية، إذ إنّ هذه الأخيرة أقل قبولًا لدى الناخبين. إن أسياد طباعة المال في العصر الحديث هم المصارف المركزية التي تعمل بالتعاون مع المصارف المالية والحكومات، يتعاونون على إصدار الديون في نظام مصرفي احتياطي جزئي. تحمي القوانين الرسمية العملات الحكومية، كالدولار الأمريكي واليورو والين، إذ تقضي هذه القوانين بقبول هذه العملات الحكومية وسيلة لتسديد أي دين مالي في أي قضاء. ومن المعتاد أيضًا أن يُفرَض على السكان في كل منطقة استعمال العملة الحكومية لدفع الضرائب وللتجارة. لا تُستخدم هذه العملات الحكومية إلا لغياب خيارات أخرى قانونية. في النظام المالي الحكومي، تقترب تكلفة إصدار العملة من الصفر، أي إنّ إنتاج العملة فيه ربح كبير لمنتجيها المحليين، وليس هناك حدّ أو سقف لمقدار المال الذي يستطيعون إنتاجه، الأمر الذي يقلّل من قيمة العملة المتداولة في السوق، ويدمر القوة الشرائية لمالكي تلك العملات، وهم عامّة الناس، أي أنا وأنت.

الاحتكارات تزول

ثمّ جاء البيتكوين عام 2008، وخرج للعالم مصَكًّا ماليًّا مستقلًّا عن كلّ سلطة مركزية، في زاوية مظلمة من منتدى لأنصار التشفير في الإنترنت. وكما اخترق ’يوهان غوتنبرغ‘ احتكار الكنيسة للمعرفة المطبوعة باختراعه آلة الطباعة، قضى ’ساتوشي ناكاموتو‘ على احتكار الدولة لإنتاج المال. وبينما فتح اختراع غوتنبرغ الأبواب لعصر التنوير الذي أدّى إلى نهضة ثقافية وفكرية لا منتهى لها، فإنّ اختراع ساتوشي قد يؤدي إلى ثورة مجتمعيّة أكثر جذرية. 

اللغة والمال كلاهما أداة يتعاون بها الناس سِلْمًا، وينبغي لهما أن يكونا حرّين من التلاعب المركزي. مع تطهير الأسواق الحرة من القوى المقيّدة المصنوعة، سيكتشف الأفراد والشركات سبلًا جديدة مبدَعة لبثّ الحرية والسلام والثراء لإخوتنا البشر، ولكن هذا خارج نطاق هذه المقالة.

مع أنّ وجود البيتكوين لم يزد كثيرًا على عشر سنوات بعد، فإنّه كثيرًا ما يوصف بأنه تقنية قديمة ذهبت ريحها وبطلت فكرتها. بُنيت قصص كثيرة حول البروتوكول المالي الإنترنتي الأصلي، لمنح شرعية لعروض بديلة منافسة تقدّمها شركات خاصة وأفراد. فهل تنافس هذه العملات البيتكوين حقًّا على اساس التفوق المالي؟ ما الذي يجعل مالًا ما قيّمًا، وهل يمكن لمالٍ رقمي أن يكون موثوقًا وكفؤًا؟ وهل هناك فرق نظام العملات الحكومية الحالي عن نظام العملات الرقميّات البديلة أو بالعامّية، «الزبائل»؟ وإذا كان البيتكوين في أول مراحل اتخاذه صفة مال للناس ومن الناس، فما هي مسارات تطوره المحتملة في العقد القادم أو العقدين القادمين؟ وهل اصدار العملات البديلة -أي المُزابلة (shitcoinery)- ظاهرة حديثة، أم إن التاريخ يعيد نفسه؟ وهل يمكن أن تكون الزبلات (shitcoins) فقاعة تقنية منفوخة بالطمع والتفضيل الزمني العالي (high time preference) والأساليب التقانية الخاطئة؟ 

في هذه المقالة الموجزة، سنحاول تحليل الجوهر المريض لطبيعة العملات الرقمية البديلة، وننظر للبيتكوين على أنه تطور مالي واقعي، لا «ثورة تقنية» كما تزعم العملات الزبلات، وسنحاول توضيح أن البيتكوين لا يقدم الإمكانية الوحيدة الحقيقية لفصل المال عن الدولة فحسب، بل يمثل نقلة نوعية متقدمة جداً بالفعل وحتمية الحدوث

شيطان قديم

لقد عمل البيتكوين لتغيير المجتمع نحو الأفضل، على رغم جهل الناس به، لكنه في الوقت نفسه أحيا ظاهرة عمرها آلاف السنين على مستوًى عالمي، هي رغبة نخبة مختارة من الناس في التحكم بإنتاج المال. وقد أثبت التاريخ في حضارات ومناطق كثيرة مستقلة، أن التحكم بإنتاج المال صناعة مربحة جدا. وإنتاج المال اليوم أسهل من أي وقت مضى، إذ يمكن لأي أحد أن ينتج مالًا ويوزعه على ملايين أو مليارات الناس. إلى يومنا هذا، أنشئت أكثر من 7 آلاف عملة رقمية، وما زال الرقم في ازدياد، يدّعي أصحابها زورًا أنها أفضل ماليًّا من البيتكوين، أو يخدعون المشترين الغافلين بروايات كاذبة. 

إن إنشاء «عملة رقمية مشفرة» اليوم، لا يكلف إلا بضع دقائق، وهو ما يقلل حاجز الدخول إلى نشاط انتاج المال. يخدع «منتجو العملات» هؤلاء الأفراد والشركات والمستثمرين ليصدّقوا بقيمة عملاتهم، مسلحين بخطابات تسويقية ماكرة، ومنصات توزيع عالمية على الإنترنت، وأحيانا بتلاعبات مختلقة في السوق. معظم هذه المشاريع إن لم يكن كلها، مضللة أو عمليات احتيال على مستوى عالمي تورث المستثمرين فيها ألمًا. بلغت القيمة السوقية للعملات الرقمية البديلة تقريبًا 100 مليار دولار عند كتابة هذه المقالة، وهو ما يدل على سوء استثمار من المطورين وأصحاب الشركات والباحثين والمستثمرين. لا يستفيد من العملات الزبلات على المدى الطويل إلا طبقة واحدة من الناس: المحتالون الذين يستغلون تفاوت المعرفة في السوق. 

ولأكن واضحًا: نعم، ينبغي أن يترك للناس في السوق الحرة خيار بناء الأعمال كيف شاؤوا، ما دام الاحتيال خارج المعادلة، وما دام يُفضَح باستمرار. إن المقامرة في مصارف العملات الرقمية، التي يسميها الناس «كازينوهات الزبلات» لم تزل واحدة من أربح الصناعات حول البيتكوين، ولكن هذه الكازينوهات وكن نادراً ما تصرح للمشاركين بمقدار الخطورة الحقيقي. إن إخفاء المعلومات عن المستهلكين الذين يشترون منتجات وخدمات هي المشكلة هنا. لن يستطيع أي إشراف تشريعي أن يمنع المستهلكين من أن يُحتال عليهم، إلا أن يفهم الناس أن سوق المال مختلف وفريد. إن سوق المال هو السوق الوحيد في العالم ذو المجموع الصفري، وهو في الوقت نفسه السوق الوحيد الذي يأخذ فيه المنتصر كل شيء، إذ يصبح هو النوع السائد من المال في النهاية. لا بد أن يخسر أحد في أحد جهتي التجارة، ولأن المال هو نصف كل معاملة تجارية في العالم، فإن أسواق المال الفاسد مشكلة كبيرة، تجرّ عواقب سلبية شديدة.

عاصفة من التضليل

يستعمل لتشريع الزبلات مزيج من المعلومات المضللة العالمية والمشكلات في السوق التقليدية والضغط المالي الحاصل على الأجيال الجديدة التي ترزح تحت عبء الديون. إن المعلومات الزائفة والكذب الصريح سائدان في مشهد ترويج العملات البديلة، إذ يتلاعب المتحكمين فيها بجمهور المستهلكين الصغار الذين لا علم لهم بالخدمات المالية وتاريخ الأموال. مع قلة الثقة بالأسواق المالية التقليدية، فإن الأجيال الرقمية — وأبرزها الجيل Z وبنو الألفية — تغض النظر عن المصارف التقليدية وتريد خروج سريع منها. وتأثُّرًا بأعراف الدولة المربية، تُعفى هذه الأجيال من المسؤولية الذاتية، ويظنون أن بإمكانهم «تحقيق أحلامهم» بين ليلة وضحاها ويكتسبوا ربحًا يتقاعدون فيه وهم أبناء 25. ومن أمثلة هذه الظاهرة الحديثة، الصعود الجنوني لأسواق البورصة الذي كان دليلًا على المبادئ الاقتصادية الهشة عند هذه الأجيال.

إن المزابلة (أي التعامل بالزبلات، العملات البديلة) مغرية للخصلة الداخلية الأشنع في الإنسان، التي يكابر كثير من الناس فلا يعترفون بها: الطمع. الطمع يفسد العقل ويقلب الرجل الصادق خروفًا قصير النظر قليل العقل خدوم النفس، تابعًا للقطيع الذي يغتني من دونه. إن أصل الطمع هو خوفنا الداخلي من مواجه المستقبل المجهول، والمزابلة هي الكأس التي نشرب منها خمرة الأبدية الطموح، الواعدة بثروة موهومة، ليست إلا سرابًا. 

ومن دون الخوض في تفاصيل المشكلات التقنية للتطبيقات المختلفة للزبلات، فإنه يبدو من الصحيح الافتراض أن معظم هذه العملات والشبكات والبروتوكولات ومخططات البونزي الصريحة، إن لم يكن كلها، معيبة عن قصد. إن القاعدة البديهية للثقة هي اللامركزية المحضة، وهي مسألة ثنائية (إما أن تكون أو ألا تكون)، وليست طيفًا كما يروج معظم المزابلين. إما أن يكون النظام مركزيًّا أو لا مركزيًّا. قد تتراوح المركزية على طيف من التنوع، كشبكات الخادم والزبون الحاسوبية، ولكن هذا لا يعنينا هنا. نهايةً، إن لمعظم المطورين العاملين في الزبلات سلطة غير معلومة على السياسة المالية لعملاتهم، وهو ما يتطلب الثقة، وهو متطلب ألغاه البيتكوين قبل أكثر من 10 سنوات. 

داروينية مالية متوحشة 

نُشر البيتكوين كمحاولةً لبناء نظام مصكّ ماليّ عالمي باستعمال الإنترنت والتشفير والحوسبة الشبكية والبنية التحتية للأنظمة. لا جديد في البيتكوين، معظم التقنيات المستعملة فيه موجودة ومستعملة منذ عقود. كل شيء مجرَّب ومختبَر. ومن الخطأ افتراض أن البيتكوين كان أول محاولة لإنشاء نقدٍ رقمي. فقد كان من قبله محاولات كثيرة، كلها هلكت. 

سواءٌ أكان E-Gold، أم Digicash، أم Liberty Reserve أم B-Money، كل هذه التطبيفات طُوّرت عبر السنين، وأضافت إلى صرح البيتكوين ما أضافت. إن الفرق الأساسي بين البيتكوين والزبلات هو طبيعته اللامركزية المطلقة، ومَولِده النظيف، ومخترعه الغامض. ليس للبيتكوين رأس يقطع، ولا إدارة تُبتَز، ولا نقاط فشل مركزية. والبيتكوين متأقلم مع بيئته، مهما عادته، وتزداد صلابته مع تطويرات البروتوكول التي تحترم ضماناته التي لا هوادة فيها. البيتكوين أشبَهُ بالكائن الحي الذي يحاول أن ينجو من اختبار الوقت، وهذا أنقى أشكل تضاد الهشاشة في العالم. 

«إن عبقرية البيتكوين كانت في ابتكار عملة رقمية ناجحة في العالم الحقيقي، ولم تكن في إنشاء فتح رياضي أو تشفيري عميق، بل باستعمال قطَع عمرها عقود بطريقة شبه جديدة ولكن لم تخطر على عقل»، جاء هذا في مقالة مؤثرة عام 2011 عن التكنولوجيا. كل شيء احتاجه البيتكوين كان موجودًا قبل سنين، حتى الأفكار الأساسية.

ليست المعارك في سوق المال معارك في خصائص تقنية متزايدة، بل هي معارك في الخصائص المالية الأساسية. البيتكوين هو تطوّر مالي واقعي، خلافًا لمصدري الزبلات الذين يجعلونها ثورة تقنية موهومة. هذه السرديات الضحلة عن «لامركزية مواقع الإنترنت»، و«إصلاح إمكانية تعقب سلسلة التوريد»، تروَّج بدلًا من المحاولات الفاشلة لتشريع بعض المشاريع في المجال، التي كان مكتوبًا عليها الفشل منذ نشأتها. وتستعمل التعقيدات غير اللازمة عادة لإرباك الناس وزيادة عامل الطمع الذي ناقشناه من قبل. 

تتنافس الأموال (وهي نوع من البضائع مختلف عن بضائع المستهلكين ورؤوس الأموال) على المتانة، وهي مزيج من صفات موضوعية تجعل كل وسيط محايد مفيد فعال عند استخدامه مالًا. إن أفضل مال هو المال الذي لا استخدام له إلا المال، أي المال الذي ليس له قيمة جوهرية. إلى جانب القيمة المزيدة التي يكتسبها المال من كونه مالًا، يدرك الناس طبيعيًّا أن هذا المال طريقة صالحة لحفظ العملة ومتاجرتها وقياسها. وفي هذا القول مخالفة للمدرسة النمساوية في الاقتصاد، التي ترفضه وتقول بدلًا منه بـ«نظرية الإرجاع» ولكن هذا نقاش يومٍ آخر.

تروّج الزبلات «خطط الثراء السريع»، بعوائد لا تصدق وسرديات ضحلة، وبإسلوب التحرك بسرعة وكسر الأشياء، وتدافع عن نفسها بالقول إن التنافس في السوق الحرة موجود ليتيح للناس اختيار ما يرونه الأفضل. ومع أن هذا الرأي محل نزاع، فإنه ينبغي أن يُرفَض ببساطة بذكر هذه المسلمات: الكذب احتيال، والاحتيال سرقة، والسرقة يجب منعها. يُعجب البيتكوين أصحاب الترجيح الزماني المنخفض، أي الذين يفكرون على المدى البعيد ويريدون أن يجدوا أمانهم في ساتوشياتهم (كل بيتكوين تنقسم إلى 100 مليون ساتوشي). البيتكوين ليس خطة «للثراء السريع»، بل على مخطط «لا تفتقر بطيئًا»، أي إنه سلاح ضد أبرز شرور العالم: التضخم المالي.

فكر على المدى البعيد، اختر البيتكوين واخرج من المنظومة السائدة. أو كن طمّاعًا، وجرّ على نفسك شرور الترجيح الزماني العالي والقمار الفاسد الذي لم يزل يفسد القلوب والأرواح والعقول منذ مطلع الزمان.

في النهاية، لا مفر: البيتكوين حتمى وكل الزبلات ستهلك في داروينية مالية متوحشة. اختر بحكمة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى